النهي عنه للمصلحة في وقت آخر، فإن المصالح مما يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال حتى إن مصلحة بعض الأشخاص في الغنى أو الصحة أو التكليف، ومصلحة الآخر في نقيضه، فكذلك جاز أن تختلف المصلحة باختلاف الأزمان حتى أن مصلحة بعض أهل الأزمان في المداراة والمساهلة، ومصلحة أهل زمان آخر في الشدة والغلظة عليهم، إلى غير ذلك من الأحوال.
وإذا عرف جواز اختلاف المصلحة باختلاف الأزمان، فلا يمتنع أن يأمر الله تعالى المكلف بالفعل في زمان لعلمه بمصلحته فيه، وينهاه عنه في زمن آخر لعلمه بمصلحته فيه، كما يفعل الطبيب بالمريض، حيث يأمره باستعمال دواء خاص في بعض الأزمنة وينهاه عنه في زمن آخر بسبب اختلاف مصلحته عند اختلاف مزاجه، وكما يفعل الوالد بولده من التأديب له وضربه في زمان، واللين له والرفق به في زمان آخر على حسب ما يتراءى له من المصلحة. ولهذا خص الشارع كل زمان بعبادة غير عبادة الزمن الآخر، كأوقات الصلوات والحج والصيام، ولولا اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لما كان كذلك.
ومع جواز اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لا يكون النسخ ممتنعا.
هذا ما يدل على الجواز العقلي من جهة العقل.
وأما من جهة السمع: فقوله تعالى * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) * (2) البقرة: 106) فهذه الآية تدل على جواز النسخ على الله تعالى شرعا.
أما بالنسبة إلى من خالف في ذلك من المسلمين فظاهر لموافقته على أن الآية من كلام الله تعالى، وأن كلامه صدق.
وأما بالنسبة إلى اليهود، فلانه إذا ثبت أن محمدا رسول الله بما أثبتناه من الأدلة القاطعة في علم الكلام، وأنه صادق فيما يدعيه من الوحي إليه من الله تعالى، فقد ادعى كون هذه الآية من كلام الله، فكان صادقا في ذلك، وكانت الآية حجة على جواز النسخ.