وهو أيضا فاسد من حيث إنه أخذ الامر في تعريف الامر وتعريف الشئ بنفسه محال. وإن اقتصروا في التحديد على القول بأن الامر صيغة افعل المجردة عن القرائن لا غير، وزعموا أن صيغة افعل فيما ليس بأمر لا تكون مجردة عن القرائن، فليس ما ذكروه أولى من قول القائل: التهديد عبارة عن صيغة افعل المجردة عن القرائن، إلا أن يدل عليه دليل من جهة السمع، وهو غير متحقق.
ومنهم من قال: الامر صيغة افعل بشرط إرادات ثلاث إرادة إحداث الصيغة، وإرادة الدلالة بها على الامر، وإرادة الامتثال: فإرادة إحداث الصيغة، احتراز عن النائم إذا وجدت هذه الصيغة منه، وإرادة الدلالة بها على الامر احتراز عما إذا أريد بها التهديد أو ما سواه من المحامل، وإرادة الامتثال احتراز عن الرسول الحاكي المبلغ، فإنه، وإن أراد إحداث الصيغة والدلالة بها على الامر، فقد لا يريد بها الامتثال.
وهو أيضا فاسد من وجهين:
الأول: أنه أخذ الامر في حد الامر، وتعريف الشئ بنفسه محال ممتنع الثاني: هو أن الامر الذي هو مدلول الصيغة إما أن يكون هو الصيغة، أو غير الصيغة: فإن كان هو نفس الصيغة، كان الكلام متهافتا من حيث إن حاصله يرجع إلى أن الصيغة، دالة على الصيغة، والدال غير المدلول. وإن كان هو غير الصيغة، فيمتنع أن يكون الامر هو الصيغة، وقد قال بأن الامر هو صيغة افعل بشرط الدلالة على الامر، فإن الشرط غير المشروط. وإذا كان الامر غير الصيغة، فلا بد من تعريفه والكشف عنه، إذ هو المقصود في هذا المقام.
ولما انحسمت عليهم طرق التعريف، قال قائلون منهم: الامر هو إرادة الفعل، وقد احتج الأصحاب على إبطاله بأن السيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده، إذا اعتذر عن ذلك قصد إظهار أمره وأمره بين يدي السلطان قصدا لاظهار مخالفته، لبسط عذره والخلاص من عقاب السلطان له، فإنه يعد آمرا، والعبد مأمورا، ومطيعا بتقدير الامتثال، وعاصيا بتقدير المخالفة، مع علمنا بأنه لا يريد منه الامتثال لما فيه من ظهور كذبه وتحقيق عقاب السلطان له، والعاقل لا يقصد ذلك. غير أن مثل هذا لازم على أصحابنا