القرائن، مع أن القرائن قد تفيد آحادها الظن، وبتضافرها واجتماعها العلم، كما سنبينه. فلا يمتنع أن يحصل العلم بمثل ذلك العدد في بعض الوقائع للمستمع دون البعض، لما اختص به من القرائن التي لا وجود لها في غيره، وبتقدير اتحاد الواقعة وقرانها لا يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر، لتفاوتهما في قوة الادراك والفهم للقرائن، إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك ظاهر جدا، حتى أن منهم من له قوة فهم أدق المعاني وأغمضها في أدنى دقيقة من غير كد ولا تعب، ومنهم من انتهى في البلادة إلى حد لا قدرة له على فهم أظهر ما يكون من المعاني مع الجد والاجتهاد في ذلك، ومنهم من حاله متوسطة بين الدرجتين. وهذا أمر واضح لا مراء فيه، ومع التفاوت في هذه الأمور يظهر أن ما ذكره القاضي وأبو الحسين البصري مما لا سبيل إلى تصحيحه على إطلاقه المسألة السادسة إذا عرف أن التواتر يفيد العلم بالمخبر الواحد، كالاخبار عن قتل ملك أو هجوم بلد، كما ذكرناه، فلو بلغ عدد المخبرين إلى حد التواتر، لكن اختلفت أخبارهم والوقائع التي أخبروا عنها مع اشتراك جميع أخبارهم في معنى كلي مشترك بين مخبراتهم، فالكل مخبرون عن ذلك المعنى المشترك ضرورة إخبارهم عن جريانه، إما بجهة التضمن أو الالتزام، فكان معلوما من أخبارهم وذلك كالاخبار التي وردت خارجة عن الحصر عن وقائع عنتر في حروبه، ووقائع حاتم في هباته وضيافاته، وإن اختلفت وقائع هذه الأخبار، فكلها دالة على القدر المشترك من شجاعة هذا وكرم هذا. غير أنه ربما كان حصول العلم بها مثل التواتر الأول، لاتحاد لفظه ومعناه أسرع حصولا من الثاني، لاختلاف ألفاظه وما طابقها من المعاني، وإن اتحد مدلولها من جهة التضمن أو الالتزام وهذا آخر باب التواتر.
(٣٠)