ابن عباس: هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء، وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى.
القول الثاني: أن المراد من * (الكرسي) * السلطان والقدرة والملك، ثم تارة يقال: الإلهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد، والعرب يسمون أصل كل شيء * (الكرسي) * وتارة يسمى الملك بالكرسي، لأن الملك يجلس على الكرسي، فيسمى الملك باسم مكان الملك.
القول الثالث: أن * (الكرسي) * هو العلم، لأن العلم موضع العالم، وهو الكرسي فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه، والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه، ومنه يقال للعلماء: كراسي، لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم: أوتاد الأرض.
والقول الرابع: ما اختاره القفال، وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه، وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم من ذلك أنه جعل الكعبة بيتا له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعا للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشا، فقال * (الرحمن على العرش استوى) * (طه: 5) ثم وصف عرشه فقال * (وكان عرشه على الماء) * (هود: 7) ثم قال: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمده ربهم) * (الزمر: 75) وقال: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * وقال: * (الذين يحملون العرش ومن حوله) * (غافر: 7) ثم أثبت لنفسه كرسيا فقال: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) *.
إذا عرفت هذا فنقول: كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي، فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر، ولما توافقنا ههنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزه عن الكعبة، فكذا الكلام في العرش والكرسي، وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول، لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (ولا يؤده حفظهما) * فاعلم أنه يقال: آده يؤده: إذا أثقله وأجهده، وأدت العود أودا، وذلك إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته، والمعنى: لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما