الكلام لم تجد فيه إلا تقرير هذه الدلائل والذب عنها ودفع المطاعن والشبهات القادحة فيها، أفترى أن علم الكلام يذم لاشتماله على هذه الأدلة التي ذكرها الله أو لاشتماله على دفع المطاعن والقوادح عن هذه الأدلة ما أرى أن عاقلا مسلما يقول ذلك ويرضى به. وثانيها: أن الله تعالى حكى الاستدلال بهذه الدلائل عن الملائكة وأكثر الأنبياء أما الملائكة فلأنهم لما قالوا: * (أتجعل فيها) * (البقرة: 30) من يفسد فيها كان المراد أن خلق مثل هذا الشيء قبيح، والحكيم لا يفعل القبيح، فأجابهم الله تعالى بقوله: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * والمراد إني لما كنت عالما بكل المعلومات كنت قد علمت في خلقهم وتكوينهم حكمة لا تعلمونها أنتم، ولا شك أن هذا هو المناظرة، وأما مناظرة الله تعالى مع إبليس فهي أيضا ظاهرة وأما الأنبياء عليهم السلام فأولهم آدم عليه السلام وقد أظهر الله تعالى حجته على فضله بأن أظهر علمه على الملائكة وذلك محض الاستدلال، وأما نوح عليه السلام فقد حكى الله تعالى عن الكفار قولهم: * (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) * (هود: 32) ومعلوم أن تلك المجادلة ما كانت في تفاصيل الأحكام الشرعية بل كانت في التوحيد والنبوة، فالمجادلة في نصرة الحق في هذا العلم هي حرفة الأنبياء، وأما إبراهيم عليه السلام فالاستقصاء في شرح أحواله في هذا الباب يطول وله مقامات: أحدها: مع نفسه وهو قوله: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) وهذا هو طريقة المتكلمين في الاستدلال بتغيرها على حدوثها، ثم إن الله تعالى مدحه على ذلك فقال: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) * (الأنعام: 82) وثانيها: حاله مع أبيه وهو قوله: * (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) * (مريم: 42) وثالثها: حاله مع قومه تارة بالقول وأخرى بالفعل، أما بالقول فقوله: * (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) * (الأنبياء: 52) وأما بالفعل فقوله: * (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) * (الأنبياء: 58). ورابعها: حاله مع ملك زمانه في قوله: * (ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت) * (البقرة: 258) إلى آخره وكل من سلمت فطرته علم أن علم الكلام ليسي إلا تقرير هذه الدلائل ودفع الأسئلة والمعارضات عنها، فهذا كله بحث إبراهيم عليه السلام في المبدأ، وأما بحثه في المعاد فقال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * (البقرة: 26) إلى آخره وأما موسى عليه السلام فانظر إلى مناظرته مع فرعون في التوحيد والنبوة، أما التوحيد فاعلم أن موسى عليه السلام إنما يعول في أكثر الأمر على دلائل إبراهيم عليه السلام وذلك لأن الله تعالى حكى في سوطه طه: * (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * (طه: 49، 50) وهذا هو الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله: * (الذي خلقني فهو يهدين) * (الشعراء: 78) وقال في سورة الشعراء * (ربكم ورب آبائكم الأولين) * (الشعراء: 26) وهذا هو الذي قاله إبراهيم: * (ربي الذي يحيي ويميت) * (فلما لم يكتف فرعون بذلك وطالبه بشيء آخر قال موسى: * (رب المشرق والمغرب) * (الشعراء: 28) فهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل حرفة هؤلاء المعصومين وأنهم كما استفادوها من عقولهم فقد توارثوها من أسلافهم الطاهرين، وأما استدلال موسى على النبوة
(٨٩)