تقليديا، وإن كان واجبا فكانت تلك النظريات واجبة الدوران نفيا وإثباتا مع تلك القضايا الضرورية، فوجب أن لا يكون شيء من تلك النظريات مقدورا للعبد أصلا. وثانيها: أن الإنسان إنما يكون قادرا على إدخال الشيء في الوجود لو كان يمكنه أن يميز ذلك المطلوب عن غيره والعلم إنما يتميز عن الجهل بكونه مطابقا للمعلوم دون الجهل وإنما يعلم ذلك لو علم المعلوم على ما هو عليه، فإذن لا يمكنه إيجاد العلم بذلك الشيء إلا إذا كان عالما بذلك الشيء لكن ذلك محال لاستحالة تحصيل الحاصل، فوجب أن لا يكون العبد متمكنا من إيجاد العلم ولا من طلبه. وثالثها: أن الموجب للنظر، إما ضرورة العقل، أو النظر أو السمع. والأول: باطل لأن الضروري لم يشترط العقل فيه، ووجوب الفكر والنظر ليس كذلك، بل كثير من العقلاء يستقبحونه، ويقولون إنه في الأكثر يفضي بصاحبه إلى الجهل، فوجب الاحتراز منه، والثاني: أيضا باطل، لأنه إذا كان العلم بوجوبه يكون نظريا، فحينئذ لا يمكنه العلم بوجوب النظر قبل النظر، فتكليفه بذلك يكون تكليف ما لا يطاق، وأما بعد النظر فلا يمكنه النظر، لأنه لا فائدة فيه، والثالث: باطل، لأنه قبل النظر لا يكون متمكنا من معرفة وجوب النظر، وبعد النظر لا يمكنه إيجابه أيضا لعدم الفائدة، وإذا بطلت الأقسام ثبت نفي الوجوب. المقام الثالث: وهو أن بتقدير كون النظر مفيدا للعلم ومقدورا للمكلف، لكنه يقبح من الله أن يأمر المكلف به، وبيانه من وجوه: أحدها: أن النظر في أكثر الأمر يفضي بصاحبه إلى الجهل فالمقدم عليه مقدم على أمر يفضي به غالبا إلى الجهل. وما يكون كذلك يكون قبيحا، فوجب أن يكون الفكر قبيحا، والله تعالى لا يأمر بالقبيح. وثانيها: أن الواحد منا مع ما هو عليه من النقص وضعف الخاطر وما يعتريه من الشبهات الكثيرة المتعارضة، لا يجوز أن يعتمد على عقله في التمييز بين الحق والباطل. فلما رأينا أرباب المذاهب كل واحد منهم يدعي أن الحق معه، وأن الباطل مع خصمه ثم إذا تركوا التعصب واللجاج وأنصفوا، وجدوا الكلمات متعارضة، وذلك يدل على عجز العقل عن إدراك هذه الحقائق. وثالثها: أن مدار الدين لو كان على النظر في حقائق الدلائل لوجب أن لا يستقر الإنسان على الإيمان ساعة واحدة، لأن صاحب النظر إذا خطر بباله سؤال على مقدمة من مقدمات دليل الدين، فقد صار بسبب ذلك السؤال شاكا في تلك المقدمة، وإذا صار بعض مقدمات الدليل مشكوكا فيه. صارت النتيجة ظنية. لأن المظنون لا يفيد اليقين، فيلزم أن يخرج الإنسان في كل ساعة عن الدين، بسبب كل ما يخطر بباله من الأسئلة والمباحث. ورابعها: أنه اشتهر في الألسنة أن من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق، وذلك يدل على أنه لا يجوز فتح الباب فيه: المقام الرابع: أن بتقدير أنه في نفسه غير قبيح، ولكنا نقيم الدلالة على أن الله ورسوله ما أمرا بذلك، والذي يدل عليه أن هذه المطالب لا تخلو، إما أن يكون العلم بدلائلها علما ضروريا غنيا عن التعلم والاستفادة، وإما أن لا يكون كذلك، بل يحتاج في تحصيلها إلى
(٩٤)