تعلقت بان يستعمل الألفاظ المحتملة ويجعل الطريق إلى معرفة المراد به ضربا من الاستدلال ولهذه العلة أطال في موضع وأسهب واختصر في آخر وأوجز واقتصر وذكر قصة في موضع وأعادها في موضع آخر واختلفت أيضا مقادير الفصاحة فيه وتفاضلت مواضع منه بعضه على بعض والجواب الثاني: ان الله تعالى إنما خلق عباده تعريضا لثوابه وكلفهم لينالوا أعلى المراتب وأشرفها ولو كان القرآن كله محكما لا يحتمل التأويل ولا يمكن فيه الاختلاف لسقطت المحنة وبطل التفاضل وتساوت المنازل ولم تبن منزله العلماء من غيرهم وانزل الله القرآن بعضه متشابها ليعمل أهل العقل أفكارهم ويتوصلوا بتكلف المشاق والنظر والاستدلال إلى فهم المراد فيستحقوا به عظيم المنزلة وعالي الرتبة فان قيل: كيف تقولون، ان القرآن فيه محكم ومتشابه، وقد وصفه الله تعالى بأنه اجمع محكم؟ ووصفه في مواضع أخر بأنه متشابه وذكر في موضع آخر ان بعضه محكم، وبعضه متشابه - كما زعمتم - وذلك نحو قوله: " الر. كتاب أحكمت آياته " (1) وقال في موضع آخر: " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها " (2) وقال في موضع آخر: " وهو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " (3) وهل هذا إلا ظاهر التناقض؟
قلنا: لا تناقض في ذلك، لان وصفه محكم كله، المراد به انه بحيث لا يتطرق عليه الفساد والتناقض والاختلاف والتباين والتعارض، بل لا شئ منه إلا وهو في غاية الاحكام - إما بظاهره أو بدليله، على وجه لا مجال للطاعنين عليه. ووصفه بأنه متشابه أنه يشبه بعضه بعضا في باب الاحكام الذي أشرنا إليه، وأنه لا خلل فيه ولا تباين ولا تضاد ولا تناقض. ووصفه بان بعضه محكم، وبعضه متشابه ما أشرنا إليه، من أن بعضه ما يفهم المراد بظاهره فيسمى محكما ومنه ما يشتبه المراد منه بغيره وإن كان على المراد والحق منه دليل فلا تناقض في ذلك بحال.