بالجلوس، فلما فرغ سألنا من أين القدوم، فحكينا له الأحوال، فقام معنا فأخذني إلى وراء أسطوانة المسجد، فلزم اذني وعركها عركا شديدا، وقال: أيها الولد ان لم تجعل نفسك شيخا للعرب وتحب الرئاسة فيضيع به وقتك تصير رجلا فاضلا، فلزمت كلامه وانزويت عن الأحباب والأخلاء في وقت قراءتي، فمضى معنا إلى متولي المدرسة فعين لنا شيئا قليلا لا يفي بوجه من الوجوه، ثم شرعنا قراءة الدرس عند ذلك الشيخ وعند غيره.
فلما مضت لنا أيام قلائل قال لي أخي وصديقي: ينبغي أن نرجع إلى الجزائر، لان المعاش قد ضاق علينا، فقلت لهم: أنا أكتب بالأجرة وأعبر أوقاتي، فكتبت بالأجرة لمعاشي وكاغذي وما احتاج إليه، وكنت أيضا أكتب أربعة دروس للقراءة وأحشيها وأصححها وحدي وكان حالي في وقت الصيف الحار أن طلبة العلم يصعدون إلى سطح المدرسة وأنا أغلق باب الحجرة وأشرع في المطالعة والحواشي وتصحيح الدرس إلى أن يناجي المؤذن قريب وقت الصبح، ثم أضع وجهي على الكتاب وأنام لحظة، فإذا طلع الصبح شرعت في التدريس إلى وقت الظهر، فإذا أذن المؤذن قمت أسعى إلى درسي التي أقرأها، فربما أخذت قطعة خبز من دكان الخباز في طريقي فآكلها وانا أمشي، وفي أغلب الأوقات ما كان يحصل فأبقى إلى الليل.
وكنت في أكثر أحوالي إذا جاء الليل لم أعلم أني أكلت شيئا في النهار أم لا فإذا تفكرت تحققته أني لم آكل شيئا، فأتى لي زمان ما كان عندي دهن سراج للمطالعة، فأخذت غرفة عالية وجلست بها وكان لها أبواب متعددة، فكنت إذا أضاء القمر فتحت كتابي للمطالعة، وكلما دار القمر فتحت بابا من الأبواب وبقيت على هذه الحالة مدة سنتين، فضعف بصري فهو ضعيف إلى هذا الآن.
وكان لي درس أكتب حواشيه بعد صلاة الصبح في وقت الشتاء، وكان الدم يجري من يدي من شده البرد وكنت لا أشعر به، وهكذا كانت الأحوال إلى ثلاث سنوات، فشرعت في تأليف مفتاح اللبيب على شرح التهذيب في علم النحو، ومتنه من مصنفات شيخنا بهاء الدين محمد تغمده الله برحمته، وكتبت في ذلك الوقت شرحا على الكافية.
فقرأت علوم العربية عند رجل فاضل من أهل بغداد، والأصول عند رجل محقق من أهل الأحساء، والمنطق والحكمة عند المحققين المدققين شاه أبي الولي وميرزا