وكيف يعتمد عليه وأنت تعلم أن الإنسان قد يغضب فيقول: لو سامني هذا السلطان لهذا الأمر ما قبلته، وإن عندنا لشيخا ضعيف الجسم ظاهر الجبن يصلي بنا في مسجدنا فلا يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال: والله لأصبرن على هذا أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت علي ربيعة ومضر.
فقال: ليس الدلائل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره، والذي اعتمدنا عليه يدل كما يدل العقل والخبز ووجه الدلالة منه أن أبا بكر باتفاق لم يكن مؤوف العقل ولا غبيا ولا ناقصا بل كان بالاجماع من العقلاء، وكان بالاتفاق جيد الآراء، فلولا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته لما قال هذا القول بحضرة المهاجرين والأنصار وهو لا يأمن أن يقوم القوم على خلافه فيخذلونه ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر على ما ادعيتموه عليه، فيظهر منه الخلف في قوله وليس يقع هذا من عاقل حكيم، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل مقاله الذي حكيناه على شجاعته كما وصفناه.
فقال له الشيخ أدام الله عزه: ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما ادعيت من شجاعته كما رويت عنه من القول ولا يوجب ذلك في عرف ولا عقل ولا سنة ولا كتاب، وذلك أنه لو كان على ما ذكرت من الحكمة فليس بممتنع أن يأتي بهذا القول مع جبنه وخوفه وهلعه ليشجع أصحابه ويحض المتأخرين عنه على نصرته، ويحثهم على جهاد عدوه ويقوي عزمهم على معونته، ويصرفهم عن رأيهم في خذلانه.
وهكذا يصنع الحكماء في تدبيراتهم فيظهرون فن الصبر ما ليس عندهم ومن الشجاعة ما ليس في طبائعهم حتى يمتحنوا الأمر وينظروا عواقبه، فإن استجاب المتأخرون عنهم ونصرهم الخاذلون لهم، وكلوا الحرب إليهم وعلقوا