للمدعي وإبطال دعواه ولا يتمسك بحجته في إثبات مدعاه حتى يرى قاضيا بالحق قاطعا للنزاع، وهذا من كمال النفس ورزانة العقل، والتكلم في هذه الأمور قبل وجدان الحاكم العادل المميز بين الحق والباطل من آداب السفهاء وسنن الجهلاء.
(وكان لا يغفل عن إخوانه ولا يخص نفسه بشيء دونهم) هذا من كمال شفقته ورقة قلبه ولينة طبعه حيث أنه لا يغفل عن تفقد أحوال إخوانه المؤمنين في جميع الحالات ولا يخص نفسه دونهم بشيء من الخيرات بل يريد لهم ما يريد لنفسه. ويكره لهم ما يكره لنفسه. ووجه تخصيص كان هنا بالعطف خفي فليتأمل.
(كان ضعيفا مستضعفا) منشأ الأول كثرة الصيام والقيام بالصلاة وسائر العبادات والسهر وخشونة المطعم والملبس وهجر الملاذ والشهوات الدنيوية، حتى صار ضعيفا في بدنه. ومنشأ الثاني تواضعه للمؤمنين وعدم مجادلته وتغلبه عليهم حتى استضعفوه وعدوه ضعيفا وإن كان قويا في نفس الأمر كما أشار إليه بقوله:
(فإذا جاء الجد كان ليثا عاديا) الجد: الاجتهاد في الأمر والمراد به هنا المحاربة والمجاهدة، والسبع العادي الظالم الذي يفترس الناس. يعني إن كان وقت المجاهدة مع أعداء الدين فهو بمنزلة الأسد في الهيبة والقوة والصولة وهذا مقتبس من قوله تعالى في وصف أمير المؤمنين والأئمة من أولاده الطاهرين (عليهم السلام) (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) وقرئ «غاديا» بالغين المعجمة أيضا وانما وصف الأسد به لأن الأسد إذا غدى كان جايعا فصولته أشد (كان لا يلوم أحدا فيما يقع العذر في مثله حتى يرى اعتذارا) أي كان من عادته الحسنة أن لا يسرع بملامة أحد إذا قصر في حقه لإمكان أن يكون له عذر، وليس المقصود اللوم بعد الاعتذار نظيره قولك: لا أطلب رزقي حتى يأتيني، لأنك لم تقصد الطلب بعد إتيانه.
(كان يفعل ما يقول ويفعل ما لا يقول) أي كان يفعل كل ما يقول ويأمر به غيره ويفعل ما لا يقوله، وفيه مبالغة لكمال عنايته بالتقرب إلى الله تعالى، وتلميح إلى تشبثه بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون).
(كان إذا ابتزه أمر ان لا يدري أيها أفضل نظر إلى أقربهما إلى الهوى فخالفه) البز والابتزاز: القهر والغلبة وأخذ الشيء بجفاء وقهر، وإنما خالف ما تهواه النفس وتميل إليه وهو الأخف الأسهل لطلب الأثقل الأشق عليها.
(كان لا يشكو وجعا إلا عند من يرجو عنده البرء) وهو الله تعالى أو غيره أيضا، وذلك لقوة صبره وإحاطة علمه بأن الشكاية عند غيره شكاية من الله تعالى، وهذا ليس من دأب العارفين، وأما