يستلزمان دوام الجد في العمل والإعراض عن الدنيا، ومبدؤهما تصور عظمة الخالق وبحسب قوة ذلك التصور يكون قوة الخوف والرجاء وهما بابان عظيمان للجنة. وينبغي أن يعلم أن جوهر البسيط الانساني إذا صفا عن الكدورات الجسمانية وخلا عن اللذات الطبيعية اتصل بعالم القدس وشاهد بنور البصيرة جمال الحق واستغرق في تجلياته وقطع عنه علائق الكثرة. وهذه المرتبة هي مرتبة حق اليقين وليست عند صاحب هذه المرتبة زيادة فرق بين تعلق جوهره ببدنه وتجرده عنه لأن استعمال القوى البدنية لا يمنعه من النظر إلى الكمال الحقيقي إلا أن ذلك النظر بعد تجرده التام ومفارقته بالكلية عن ذلك التعلق أصفى وأتم إذ هو ما دام التعلق لا يخلو من خوف فوات تلك المرتبة بمقتضيات التعلق والشهود التام، والأمن من الخوف إنما يحصلان بعد التجرد التام وزوال التعلق بالكلية فلذلك صاحبها يترقب رفع هذا الحجاب وكشف هذا النقاب خوفا من العذاب، وأشده فوات هذه المرتبة وشوقا إلى الثواب وأعظمه شهود جمال الحق.
26 - عنه، عن بعض أصحابه من العراقيين، رفعه قال: خطب الناس الحسن بن علي صلوات الله عليهما فقال: أيها الناس أنا اخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني وكان رأس ما عظم به في عيني، صغر الدنيا في عينه، كان خارجا من سلطان بطنه، فلا يشتهي مالا يجد ولا يكثر إذا وجد، كان خارجا من سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه، كان خارجا من سلطان الجهالة فلا يمد يده إلا على ثقة لمنفعة، كان لا يتشهي ولا يتسخط ولا يتبرم، كان أكثر دهره صماتا، فإذا قال بذ القائلين كان لا يدخل في مراء، ولا يشارك في دعوى، ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضيا، وكان لا يغفل عن إخوانه، ولا يخص نفسه بشيء دونهم، كان ضعيفا مستضعفا فإذا جاء الجد كان ليثا عاديا، كان لا يلوم أحدا فيما يقع العذر في مثله حتى يرى اعتذارا، كان يفعل ما يقول ويفعل مالا يقول، كان إذا ابتزه أمران لا يدري أيهما أفضل نظر إلى أقربهما إلى الهوى فخالفه، كان لا يشكو وجعا إلا عند من يرجو عنده البرء. ولا يستشير إلا من يرجو عنده النصيحة، كان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشكى ولا يتشهي ولا ينتقم ولا يغفل عن العدو فعليكم بمثل هذه الأخلاق الكريمة إن أطقتموها، فإن لم تطيقوها كلها فأخذ القليل خير من ترك الكثير ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* الشرح:
قوله (أنا أخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني) أريد بالأخ أبو ذر الغفاري على احتمال، وبالأعظم: الأعظم قدرا ومنزلة.
(وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه) الرأس: الأصل، والصغر وزان قفل: الذل