(... ولاحظ في كتابه ضحى الإسلام، أن المحدثين عنوا عناية فائقة بالنقد الخارجي، ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلي، فقد بلغوا الغاية في نقد الحديث من ناحية رواته جرحا وتعديلا، فنقدوا رواة الحديث في أنهم ثقات أو غير ثقات، وبينوا مقدار درجتهم في الثقة، وبحثوا هل تلاقى الراوي والمروي عنه أو لم يتلاقيا؟ وقسموا الحديث باعتبار ذلك ونحوه، إلى حديث صحيح وحسن وضعيف، وإلى مرسل ومنقطع، وإلى شاذ وغريب، وغير ذلك، ولكنهم لم يتوسعوا كثيرا في النقد الداخلي، فلم يتعرضوا لمتن الحديث هل ينطبق على الواقع أم لا؟!.
ويقول: إنهم كذلك، لم يتعرضوا كثيرا لبحث الأسباب السياسية التي قد تحمل على الوضع، فلم نرهم شكوا كثيرا في أحاديث لأنها تدعم الدولة الأموية أو العباسية أو العلوية، ولا درسوا دراسة وافية البيئة الاجتماعية في عهد النبي (ص) والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين وما طرأ عليها من خلاف، ليعرفوا هل الحديث يتمشى مع البيئة التي حكي أنه قيل فيها أو لا؟ ولم يدرسوا كثيرا بيئة الراوي الشخصية وما قد يحمله منها على الوضع وهكذا.
ثم يبين [الدكتور] أنهم لو اتجهوا كثيرا إلى نقد المتن وأوغلوا فيه إيغالهم في النوع الأول، لانكشفت أحاديث كثيرة وتبين وضعها مثل كثير من أحاديث الفضائل، وهي أحاديث رويت في مدح الأشخاص والقبائل، والأمم، والأماكن، تسابق المنتسبون لها إلى الوضع فيها، وشغلت حيزا كبيرا من كتب الحديث.
ثم نقل الدكتور قول ابن خلدون: (وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل، غثا وسمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها ولا سيروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط) (1).