أم الكتاب).
ولا يتوهم الضعيف إن هذا الإخفاء والإبداء يكون من قبيل الاغراء بالجهل، وبيان خلاف الواقع فإن في ذلك حكما ومصالح تقصر عنها العقول وتقف عندها الألباب.
وبالجملة فالبداء في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع فكما أن لنسخ الحكم وتبديله بحكم آخر مصالح وأسرارا بعضها غامض وبعضها ظاهر، فكذلك في الإخفاء والإبداء في عالم التكوين، على أن قسما من البداء يكون من اطلاع النفوس المتصلة بالملأ الأعلى على الشئ وعدم اطلاعها على شرطه أو مانعه، مثلا اطلع عيسى عليه السلام أن العروس يموت ليلة زفافه، ولكن لم يطلع على أن ذلك مشروط بعدم صدقة أهله، فاتفق أن أمه تصدقت عنه، وكان عيسى عليه السلام أخبر بموته ليلة عرسه فلم يمت، وسئل عن ذلك فقال: لعلكم تصدقتم عنه، والصدقة قد تدفع البلاء المبرم.
وهكذا نظائرها، وقد تكون الفائدة الامتحان وتوطين النفس كما في قضية أمر إبراهيم بذبح إسماعيل ولولا البداء لم يكن وجه للصدقة ولا للدعاء ولا للشفاعة ولا لبكاء الأنبياء والأولياء وشدة خوفهم وحذرهم من الله مع أنهم لم يخالفوه طرفة عين، إنما خوفهم من ذلك العلم المصون المخزون الذي لم يطلع عليه أحد، ومنه يكون البداء. وقد بسطنا بعض الكلام في البداء وأضرابه من القضاء والقدر، والمحو والإثبات في الجزء الأول من كتابنا (الدين والإسلام) فراجع إذا شئت (انتهى).