بالصدفة، نظرا إلى اعتقادها بوجود مبدأ أول، لم ينشأ من سبب ولم تتقدمه. فهذا الوجود المزعوم للالهية، لما كان شاذا عن مبدأ العلية، فهو صدفة، وقد أثبت العلم ان لا صدقة في الوجود، فلا يمكن التسليم بوجود المبدأ الإلهي، الذي تزعمه الفلسفة الميتافيزيقية.
وهكذا أخطأ هؤلاء مرة أخرى، حين أرادوا استكشاف سر الحاجة إلى العلة، ومعرفة حدود العلية، ومدى اتساعها عن طريق التجارب العلمية، كما أخطأوا سابقا في محاولة استنباط مبدأ العلية بالذات، وبصورة رئيسية من التجربة والاستقراء العلمي للكون. فان التجارب العلمية لا تعمل الا في حقلها الخاص، وهو نطاق مادي محدود، وقصارى ما تكشف عنه هو خضوع الأشياء في ذلك النطاق لمبدأ العلية، فالانفجار أو الغليان، أو الاحتراق، أو الحرارة، أو الحركة، وما إلى ذلك من ظواهر الطبيعة، لا توجد دون أسباب، وليس في الامكانات العلمية للتجربة، التدليل على ان سر الحاجة إلى العلة كامن في الوجود بصورة عامة، فمن الجائز ان يكون السر ثابتا في ألوان خاصة من الوجود، وأن تكون الأشياء التي ظهرت في المجال التجريبي من تلك الألوان الخاصة.
فاعتبار التجربة دليلا على أن الوجود بصورة عامة خاضع للعلل والأسباب، ليس صحيحا - اذن - ما دامت التجربة لا تباشر الا الحقل المادي من الوجود، وما دام نشاطها في هذا الحقل الذي تباشره لا يتخطى ايضاح الأسباب والآثار المنبثقة عنها، إلى الكشف عن السبب الذي جعل هذه الآثار بحاجة إلى تلك الأسباب. وإذا كانت التجربة ووسائلها المحدودة، قاصرة عن تكوين إجابة واضحة في هذه المسألة، فيجب درسها على الأسس العقلية، وبصورة فلسفية مستقلة. فكما أن مبدأ العلية نفسه من المبادئ الفلسفية الخالصة - كما عرفت سابقا - كذلك أيضا البحوث المتصلة به، والنظريات التي تعالج حدوده.
ويجب أن نشير إلى ان اتهام فكرة المبدأ الأول، بأنها لون من الايمان بالصدفة، ينطوي على سوء فهم لهذه الفكرة، وما ترتكز عليه من مفاهيم، ذلك ان الصدفة عبارة عن الوجود، من دون سبب، لشيء يستوي بالنسبة