كل هذا صحيح، ولكن النظام الرأسمالي لم يركز على فهم فلسفي مادي للحياة، وهذا هو التناقض والعجز، فان المسألة الاجتماعية للحياة تتصل بواقع الحياة، ولا تتبلور في شكل صحيح الا إذا أقيمت على قاعدة مركزية، تشرح الحياة وواقعها وحدودها، والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة، فهو ينطوي على خداع وتضليل أو على عجلة وقلة أناة، حين تجمد المسألة الواقعية للحياة وتدرس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها، مع ان قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية إلى واقع الحياة، التي تمون المجتمع بالمادة الاجتماعية - وهي العلاقات المتبادلة بين الناس - وطريقة فهمه لها، واكتشاف أسرارها وقيمها. فالانسان في هذا الكوكب ان كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة، عالمة بأسراره وخفاياه، بظواهره ودقائقه، قائمة على تنظيمه وتوجيهه... فمن الطبيعي ان يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوة الخالقة، لأنها أبصر بأمره وأعلم بواقعه، وأنزه قصدا وأشد اعتدالا منه.
وأيضا، فان هذه الحياة المحدودة ان كانت بداية الشوط لحياة خالدة تنبثق عنها، وتتلون بطابعها، وتتوقف موازينها على مدى اعتدال الحياة الأولى ونزاهتها... فمن الطبيعي ان تنظم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها، وتقام على أسس القيم المعنوية والمادية معا. واذن فمسألة الايمان بالله وانبثاق الحياة عنه، ليست مسألة فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة، لتفصل عن مجالات الحياة ويشرع لها طرائقها ودساتيرها، مع اغفال تلك المسألة وفصلها، بل هي مسألة تتصل بالعقل والقلب والحياة جميعا.
والدليل على مدى اتصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها أن الفكرة فيها تقدم على أساس الايمان بعدم وجود شخصية أو مجموعة من الافراد، بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها، إلى الدرجة التي تبيح ايكال المسألة الاجتماعية إليها، والتعويل في إقامة حياة صالحة للأمة عليها. وهذا الأساس بنفسه لا موضع ولا معنى له، الا إذا أقيم على فلسفة مادية خالصة، لا تعترف بامكان انبثاق النظام الا عن عقل بشري محدود.