في التخفيف من غلواء هذه المدرسة، وفي إحداث اتجاه معارض لهذه المدرسة في الأوساط الفكرية وقتذاك، كما مهدت لظهور مدارس معارضة لها منها، مدرسة الحديث التي قامت في مقابل مدرسة الرأي، كرد فعل لما حصل لهذه المدرسة من تطرف في الأخذ بالرأي، والإعراض عن الحديث.
ولا يسعنا أن نضع حدودا دقيقة لهذه المدرسة في قبال مدرسة الرأي، ونصنف المدارس الفقهية القائمة في ذلك الوقت على أساس من هذه الحدود إلى طائفتين، ولكن من المؤكد أن مدرستي داود وأبي حنيفة تقعان على طرفي النقيض من هذا النزاع، فقد نزع داود نزوعا بينا إلى الحديث، وأخذ نصوصه على ظاهرها. ونزع أبو حنيفة نزوعا بينا إلى الرأي، حتى نقل عنه خصومه ومناوؤه فيما ينقل عنه: لو كان رسول الله حيا لأخذ عني أشياء كثيرة (1).
وما بين هاتين المدرستين تقع سائر المدارس متوسطة بينهما كمذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل - وغيرها من المدارس والمذاهب التي كان للظروف السياسية دخل مباشر في بلورة وتكوين البعض منها - وعلى كل حال - كان يغلب على تلك المدارس طابع إحدى المدرستين من النزوع للرأي أو النزوع للحديث.
فبينما يذهب الاتجاه الأول - مدرسة الرأي - إلى إدخال عنصر الرأي البشري في مصادر التشريع وإن لم يبلغ مرحلة القطع واليقين، كانت مدرسة الحديث تذهب إلى اتجاه معاكس تماما لا يقل خطورة عن الاتجاه الأول، حيث كانت تتبنى الجمود على النص والأخذ بظاهر الحديث أو الاقتصار على ظاهر النصوص الشرعية. فكان لابد من اتجاه ثالث في الاجتهاد يجمع بين إيجابيات هذه المدرسة وتلك ويتجنب سلبيات كل من هاتين المدرستين (2).