ومن العجيب أن الرجل الذي كان يرى نفسه الخليفة المباشر للنبي (صلى الله عليه وآله)، وما برح يعرض ظلامته ويتحدث عن أهليته وجدارته للخلافة خلال المدة الطويلة لإزوائه كلما اقتضى المقام منه ذلك، وكان يصرخ من وحي الحرقة والألم ومن أعماق قلبه متأوها لاستلاب حقه، وزحزحة الحق عن مكانه... ها هو الآن يرفض البيعة، وقد انثال عليه الناس انثيالا عجيبا مدهشا، مقبلين عليه بقلوبهم وأرواحهم وبكل وجودهم، راضين به خليفة لهم، مؤكدين تصديه لحكومتهم في انتخاب حر مباشر! فما له يكره ذلك، ويرغب عن قبول هذه المهمة؛ معلنا ذلك بصراحة؟! ولماذا وقف الإمام (عليه السلام) هذا الموقف؟
هل رغب عنها حقا لنفسه ورجح لها شخصا آخر أم أنه أراد بموقفه هذا أن يعبر مثلا عن شيء من المجاملة السياسية - ومثله لا يجامل - من أجل أن يسترعي انتباه الناس أكثر فأكثر، أو كان لموقفه الثنائي هذا مسوغ أو مسوغات أخرى لا نعرفها؟!
والواقع أن معرفة - ولو يسيرة - بسيرته وأسلوبه وبصيرته ونهجه (عليه السلام) لا تدع مجالا للشك في أنه كان بعيدا عن المجاملات السياسية، نافرا من نفس الحكومة بما هي حكومة. فهو لم يكن طالب حكم وتسلط على الناس؛ إذ الخلافة عنده أداة لإحقاق الحق، وبسط العدل، وإقامة القسط، فهل كانت الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية آنذاك مهيأة لتحقيق الأهداف المذكورة؟
كلا، إن مثل هذه الظروف لم تكن مهيأة؛ فالتقلبات السياسية والاجتماعية والفكرية، والتغيرات الروحية والفكرية التي حدثت بعد خمس وعشرين سنة قد استتبعت تغير الصحابة ورفاق الدرب أيضا بأفكار مغايرة، ومعايير مباينة،