فعند ذلك يئس الناس من أمير المؤمنين وقام لهم بكاء وعويل، فأسكنهم الحسن (ع) لكيلا تهيج النساء ويضطرب أمير المؤمنين (ع) فسكتوا وصاروا ينشجون نشيجا خفيفا، إلا الأصبغ بن نباتة لم يملك نفسه دون ان شرق بعبرته وبكى بكاء عاليا، فأفاق أمير المؤمنين " ع " من غشوته فقال لا تبكي فإنها والله الجنة، فقال نعم يا أمير المؤمنين وأنا اعلم والله انك تصير إلى الجنة، وانما أبكي لفراقك يا سيدي.
قال حبيب بن عمرو فما أحببت ان الأصبغ يتكلم بهذا الكلام مع أمير المؤمنين " ع " فأردت ان ارفع ما وقع في قلب أمير المؤمنين " ع " من كلام الأصبغ فقلت لا بأس عليك يا أبا الحسن، فان هذا الجرح ليس بضائر وما هو بأعظم من ضربة عمرو بن عبد ود، فان البرد لا يزلزل الجبل الأصم، ولفحة الهجير لا تجفف البحر الخصم، والليث يضرى إذا خدش، والصل يقوى إذا ارتعش، فنظر إلي نظرة رأفة ورحمة وقال هيهات يا بن عمرو نفذ القضاء، وأبرم المحتوم، وجرى القلم بما فيه، واني مفارقك.
فسمعت أم كلثوم كلامه فبكت، فقال لها أمير المؤمنين " ع " ما يبكيك يا بنتاه فقالت له يا أبة وكيف لا أبكي، وأنت قمر الهاشميين وشمس الطالبيين غصنها اليماني إذا أكهمت الحروب سيوفها وبدرها الشعشعاني إذا أسدلت الظلماء سجونها عزنا إذا شاهت الوجوه ذلا وجمعنا إذا الموكب الكثير قلا، فقال لها يا بنية لو رأيت مثل ما رأيت لما بكيت على أبيك، فقالت وما رأيت يا أبة؟ قال رأيت رسول الله (ص) قد نزل في كتيبة من الملائكة من السماء ومعه جمع من الأنبياء على نجب من نجب الجنة قوائمها من العنبر ووفرها من الزعفران وأعناقها من الزبرجد الأخضر وأعينها من الياقوت الأحمر وأزمتها من اللؤلؤ الرطب في قباب من نور يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها وبأيديهم مجامر من نور تفوح منها رائحة العود، وقد أحدقوا برسول الله (ص) ليزفوا روح أبيك إلى الجنة، كأني انظر إليها يا بنية دارا أرضها رضوان الله وسقفها عفو الله وجوها المتفرج رحمة الله بابها المسك وحصاها من ألوان الجواهر فيها قصور من لؤلؤ بيضاء مجوفة من كافور ابيض وفيها أنهار من السلسبيل والعسل المصفى، فسكتت عند ذلك أم كلثوم.