فتوجه الغضبان إلى عبد الرحمن. فقال له عبد الرحمن: ما وراءك يا غضبان؟ قال:
شر طويل، تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك. ثم انصرف من عنده، فنزل رملة كرمان، وهي أرض شديدة الحر، فضرب بها قبة وجلس فيها، فبينا هو كذلك إذ ورد أعرابي من بكر بن وائل على قعود، فوقف عليه وقال: السلام عليك. فقال له الغضبان:
السلام كثير، وهي كلمة مقولة. قال الأعرابي: من أين أقبلت؟ قال: من الأرض الذلول. قال: وأين تريد؟ قال: أمشي في مناكبها، وآكل من رزق الله الذي أخرج لعباده منها. قال الأعرابي: فمن غلب اليوم؟ قال الغضبان. المتقون. قال: فمن سبق؟ قال: حزب الله الفائزون. قال الأعرابي: ومن حزب الله؟ قال: هم الغالبون.
فعجب الأعرابي من منطقه، وحضور جوابه. ثم قال: أتقرض (1)؟ قال الغضبان: إنما تقرض الفأرة. قال: أفتنشد (2)؟ قال: إنما تنشد الضالة. قال: أفتسجع (3)؟ قال: إنما تسجع الحمامة. قال: أفتنطق (4)؟ قال: إنما ينطق كتاب الله. قال: أفتقول (5)؟ قال:
إنما يقول الأمير. قال الأعرابي: تالله ما رأيت مثلك قط. قال الغضبان: بل رأيت ولكنك نسيت، قال الأعرابي: فكيف أقول؟ قال: أخذتك الغول، في العاقلون (6)، وأنت قائم تبول. قال الأعرابي: أتأذن لي أن أدخل عليك؟ قال الغضبان: وراؤك أوسع لك، قال الأعرابي: قد أحرقتني الشمس: قال الغضبان: الآن يفئ عليك الفئ (7) إذا غربت. قال الأعرابي: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي. قال الغضبان: بل عليها تبرد. قال الأعرابي:
إن الوهج شديد. قال الغضبان: ما لي عليه سلطان. قال الأعرابي: إني والله ما أريد طعامك ولا شرابك. قال الغضبان: لا تعرض بهما، فوالله لا تذوقهما. قال الأعرابي: وما عليك لو ذقتهما؟ قال الغضبان: نأكل ونشبع. فإن فضل شئ من الأكرياء (8) والغلمان، فالكلب أحق به منك. قال الأعرابي: سبحان الله! قال الغضبان: نعم، من قبل أن