الحسام والسيف مصلت بيده.
فعند ذلك رد السلام عليه نفر قليل، ثم أضحى مناديه يجمع الرؤساء والعرفاء إليه، لأخذ المواثيق وإنجاز المواعيد وتوزيع العطايا ومعاقبة المتخلفين عقوبة صارمة، فهرع لندائه خلق كثير وانقلبت القلوب وانحرفت الوجوه وتبدلت لهجات الأندية ونشريات الشيع.
نعم، لا ينقضي العجب من خيبة الكوفة في نهضتها إلا بعد التدبر في أسبابها وأسرارها، إذ باغت ابن زياد الكوفيين بزي الحسين (عليه السلام) حتى استقر في دار الإمارة بين حامية مستعدة، وقد كان الواجب على أهل الكوفة بعدما لبى الحسين (عليه السلام) دعوتهم وإرساله مسلما (رضي الله عنه) وكيلا عنه، أن تجتمع أحياؤها ويتحد رؤساؤها فيخرجوا عامل يزيد وحاشيته ويسلموا دوائرها إلى وكيل الحسين (عليه السلام)، وأن يقترحوا عليه من الأعمال المهمة ما هم أدرى به وأعرف، ومسلم (رضي الله عنه) لم يقدم عليهم كوال مختار أو مفوض مطلق ليستقل في أعمال له وأعمالهم بالتصرف والمسؤولية، وإنما بعثه الحسين (عليه السلام) كمعتمد يشرف على أمرهم ويستطلع حقيقة خبرهم، لكن الكوفيين غروا مسلما واغتروا، ولم يغتنموا صفاء وجوهم وتواني عدوهم إلى أن دهمهم ابن زياد وفرق جمعهم بالوعد والوعيد، وسكن فورتهم بالطمع والتهديد، حتى إذا سكت الضجيج من حول مسلم (رضي الله عنه)، نفى الرجال العاملين لمعونة مسلم من بلده، وزج في السجن من وجوه الشيعة أمثال المختار بن أبي عبيد الثقفي والمسيب بن نجبة وسليمان ورفاعة وغيرهم ممن لم تؤثر عليهم التضييقات ولا اغتروا بباطل الوعد، وإستوظف آخرين واختفى بعد ذلك أكثر المتهوسين في زوايا البيوت (1).
إن مسلما - وهو الذي بايعه أكثر من ثلاثين ألف مسلم - بقي وحيدا فريدا بعد القبض على الوجوه من أوليائه، كالمختار الثقفي وسليمان الخزاعي، فلاذ بصديقه هاني أكبر مشايخ الكوفة سنا وشأنا وبصيرة وعشيرة، إذ كان معمرا فوق الثمانين وشيخ كندة أعظم أرباع الكوفة، وكان إذا صرخ لباه ثلاثون ألف سيف، وكان هو وأبوه من أحبة علي (عليه السلام) وأنصاره في حروبه العراقية.