أما يزيد فلم يكن منه بادئ بدء سوى استشارة سرحون، مولى أبيه معاوية في كتب القوم إليه، فأشار عليه باستعمال عبيد الله بن زياد على العراق، وكانت بينه وبين يزيد برودة، وأبرز سرحون ليزيد عهدا كان معاوية قد كتبه في هذا الشأن قبيل وفاته حسب ما ذكره المؤرخون (1)، وأنهى إلى ابن زياد أمره وهو يومئذ واليا بالبصرة، فضم إليه معها الكوفة، وكتب إليه: أما بعد، فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة، حتى تثقفها وتوثقه أو تقتله أو تنفيه.
فأخذ ابن زياد من كتاب يزيد ورسوله قوة وبصيرة وصلاحية واسعة في صرف المال وبث المواعيد، ومنحه الاختيارات التامة فحسب ذلك ضربا من الترفيع، فمهد أمره في البصرة وعهد بأزمتها إلى أخيه وإلى أعوانه المجربين، خوفا من نشر الدعاية فيها لابن الزبير أو الحسين (عليه السلام)، وتأهب إلى الكوفة من حيث لم يعلم العامة أمره، وسرعان ما قدمها بكل جسارة ودخلها متنكرا ومتلثما، وعليه عمامة سوداء يوهم الناس أنه الحسين بن علي (عليه السلام)، وصار من يصادفونه في خطط الكوفة وطرقاتها يزعمونه الحسين السبط (عليه السلام)، فيسلمون عليه بالإمامة ويحيونه بكل كرامة ويقبلون يديه ورجليه وهو لا يكلم أحدا فوق راحلته، حتى بلغ قصر الإمارة، فطرق الباب وعلى واليها المحصور النعمان بن بشير، حتى إذا عرفه فتح الباب ودخل، عند ذلك فشا خبره وأنه ابن زياد.
فباتت الكوفة تلك الليلة تغلي كالمرجل بين مثبت ومثبط وابن زياد دخل البلدة وحده وعلى حين غرة، ولم ينزل إلا في مركز الحكم، وأخذ في قبضته المال والسلاح ورتب في ليلته على الدوائر المهمة من لم يتجاهر بمعية مسلم (رضي الله عنه)، وأصبح مناديه يجمع الناس لخطابته في الجامع الأعظم، فرقى المنبر بكل جسارة - وجسارة الخطيب تعطي لكلامه قوة نفوذ وتأثير على الأوهام - فصار يعد ويوعد، لا عن لسان الله ورسوله بل عن لسان أميره يزيد، فبلغهم سلامه، ولكن الناس لم يردوا السلام عليه أولا، حتى أخذ يطمع المطيع بمواعيد جسام ويهدد مخالفيه بحد