مدرسة الكوفة كانت المدن ولا تزال دون الريف والقرى، مركزا للعلم والفن والأدب، لأنها أوفر مؤنا وأوسع عمرانا، تتوفر فيها الوسائل المهيئة للحركة الفكرية أكثر من غيرها، لأن العمران ووسائل العمران تستتبع شيئا من الغنى والرفاهية، وهذه تستتبع شيئا من الرقي في الفكر والعاطفة والذوق، وعند ذلك يحدث الرأي وتبتدع الطريقة فينشأ العلم ويعمر الأدب، نعم إن الشؤون وآداب الشؤون تستدعي قوانين تنتظم علوما يحصل بها رقي للعقل.
والعراق العربي تركزت شؤونه في الكوفة والبصرة، ولا تزال المدن تختلف في لون الذهنية الذي يظهر فيها ويكون مدرستها الخاصة، تبعا لتوفر أسباب وتظافر عوامل تستدعي ذلك اللون، على هذا الأساس كانت مدرسة الكوفة مدرسة آداب اللغة العربية على الأكثر دون بقية العلوم، لأن كل شيء فيها عربي، وقد قيل: إن آداب اللغة العربية ميراث الكوفة.
وكانت الكوفة بعيدة عن الذهنية الهندية التي طغت موجتها على البصرة، وبعيدة عن مخلفات الأدب الفارسي الذي غشى المدرسة البغدادية، ولم يؤثر الحمر أو الأساورة على صبغتها الأدبية، الكوفة من أسارير خد الغذراء، ذلك النشز الذي ازدهر فيه الأدب العربي أيام الحيرة وعلى عهد المناذرة، وأن الكوفة تسلمت الأمانة من الحيرة، ولا حاجة بنا إلى رواية حماد القائلة: إن النعمان بن المنذر نسخت له أشعار العرب ومزاياهم الأدبية فاختزنها في قصره الأبيض، وكان الناس من الكوفيين يشيرون إلى ذلك المكان قائلين: إن هنا كنزا، حتى جاء المختار وكشف الموضع فظهرت كنوز العرب الأدبية (1).
وموقع القصر الأبيض اليوم في الجعارة، نهض عليه بيت آل زوين أو مضيفهم، وهم بيت علوي شريف وإلى اليوم يسمون ذلك المكان بالقصر، وفيه آثار للعمارة القديمة من بقايا سوار وجدر لا حاجة بنا إلى هذا، لأن وحدة المكان والزمان واللغة