فتن الكوفة وحوادثها ليست الكوفة بدعا من لداتها (1) من الأوساط الفخمة والحواضر الكبرى التي تزدلف إليها أخلاط من الناس من هنا وهنا فمن تجع علما، إلى طالب وفرا، إلى ميمم بلغة، إلى مستأمن بفنائها من ملمة الحطب وعادية المرجفين، إلى متقو بمن فيها يريد تطفيف المكاييل مع متغلب عليه، فكان بطبع الحال فيها طبقات من الأمم، علماء أبرار، ونساك زهاد، وعقلاء ساسة، وما لكون أمراء، وفا تكون ثوار، ورعرعة دهماء.
فكانت الأفكار فيها تتضارب والنزعات تتخالف، فربما أخذت الحقائق بأعضاد ذويها، وربما ساعدت الحظوظ وثابة النهمة والشره، وكلما خبا ذكر أحد الفريقين تربص الفريق الآخر به الدوائر، حتى تتضاءل مرة صاحبه وتلين قوته، ولم يزل تباين الخطط بهذه العاصمة الإسلامية حتى حكم ما انتابها من الكوارث والفتن من جرائه عليها بالتدمير، وألحقتها بحديث أمس الدابر.
وأعجب شيء كان بالكوفة - وهي عاصمة أمير المؤمنين (عليه السلام) وفيها شيعته ومحبوه، وبها أنصاره وأعضاده - أن تلك الدوائر المقلقة للسلام ما دارت على أي أحد كما دارت على أشياعه ومن لاث به وبنيه وذويه، ذلك أن المقعي (2) على أنقاض ولايتها، بعده كانوا في الغالب جبابرة طغاة ينصبون له ولشيعته العداء، وتحدوهم المطامع في سيب الأمويين إلى الوقيعة فيهم والنيل منهم.
وفي الكوفة زعانفة (3) يميلون مع كل ناعق، هم أعضاد كل ظالم، لكن الحقيقة الناصعة أبقت لعلي (عليه السلام) وولده وشيعته، صحيفة بيضاء يتلوها الملوان (4) وذكرى خالدة يتداولها مر الجديدين، وما عند الله خير وأبقى.