بالاصطناع، ممن يوثق بكفائته أو غنائه فيما يدفع إليه، فلما تحولت الخلافة الإسلامية من الغرض الديني إلى الغرض السياسي وصار الأمر كله ملكا أو سلطانا (1)، ضعف هذا الشرط ثم تحولت أزمة الأحكام إلى الأعاجم، فتقاصرت واجبات القاضي بالتدريج إلى الفصل بين الخصوم والحكم في الأحوال الشخصية، ثم انحصرت في الأحوال الشخصية بالمحاكم الشرعية كما هو اليوم.
وكان القضاة يجلسون في المساجد للحكم بين الناس، فإذا جاءهم الخصوم حكموا بينهم هناك، هذا الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان له في جامع الكوفة أيام خلافته موضع يعرف حتى الآن بدكة القضاء (2)، وهو إلى جانب الموضع المعروف ببيت الطشت، كان يجلس فيه لفصل الحكومة بين الخصمين، وكانت هناك أسطوانة قصيرة مكتوب عليها: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، ولكن محتها يد الجور والعدوان، كما محت غيرها من الآثار، فلم يكن لها اليوم عين ولا أثر.
وكانوا يعدون القضاء من الأعمال الشاقة الخطرة بالنظر إلى الدين، لما فيه من تحمله التبعة فيما قد يخطئ به القاضي فيحكم على صاحب الحق فيظلمه وهو مسؤول عنه، فكثيرا ما كان العلماء ورجال التقوى يأبون ولايته، وكثيرا ما كانوا يقهرون على توليه، وكان منهم من لم يتقاض الراتب الشهري إزاء قضائه، تورعا منه واحتياطا في الدين (3).
وكانوا إذا ولوا القاضي جاؤوا به الجامع واحتفلوا هناك بقراءة السجل الصادر له بذلك، وكان القاضي حرا في حكمه، فيحكم على مذهبه واجتهاده، ولا يجبر أن يحكم وفق مذهب من المذاهب، ولكن بتداول الأيام ودخول أكثر الممالك