الرشيد يكرمه ويجله فدعاه: قاضي القضاة، وهو أول من دعى بذلك (1)، وصار قاضي القضاة بعده هو الذي يولي قضاة مدينة بغداد، ثم صار يولي قضاة الأقاليم واقتدى بالعباسيين من عاصرهم وخلفهم من الخلفاء في الأندلس ومصر، وصاروا يولون قاضي القضاة وهو يولي القضاة.
وكانت وظيفة القاضي في صدر الإسلام محصورة في الفصل بين الخصوم، ثم صاروا يتعاطون أمورا أخرى على ما تقتضيه الأحوال، بحسب اشتغال الخلفاء بأمور السياسة، فأضيف إلى أعمال القاضي استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين، كالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء، ثم امتدت سلطتهم إلى النظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والأمناء والنواب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح.
وتوسع بعض الخلفاء حتى جعل للقضاة قيادة الجهاد في عساكر الصوائف، منهم: يحيى بن أكثم، فقد كان يخرج في أيام المأمون بالصائفة (2) إلى أرض الروم (3)، وكذلك منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر الأموي بالأندلس (4)، وولى العزيز بالله الفاطمي علي بن النعمان القضاء بمصر، وأضاف إليه قضاء الشام والحرمين والمغرب وجميع مملكة العزيز والخطابة والإمامة والعيار في الذهب والفضة والموازين والمكاييل (5)، ثم تولى القضاء أبو محمد البازوري سنة 441 وأضيف إليه الوزارة، وهو أول قاض جمع بينهما، ثم أضيفت إلى غيره بعده.
فترى فيما تقدم أن منصب القضاء كان واسعا جدا، على أنه لم يكن كذلك في كل الأعصر، وإنما اختلف باختلاف الدول كما رأيت، ثم إن الخلفاء كانوا في أوائل الإسلام لا يولون القضاء إلا أهل عصبتهم من العرب أو مواليهم بالحلف أو بالرق أو