أجد لبذل المال من اللذة، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة. وقرأ عنده قاري آخر (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) الآية. فقال: ما أحسن ما أدبنا ربنا عز وجل. وقال المنصور: سمعت أبي يقول سمعت علي بن عبد الله يقول: سادة أهل الدنيا في الدنيا الأسخياء، وسادة أهل الآخرة في الآخرة الأتقياء.
ولما عزم المنصور على الحج في هذه السنة دعا ولده المهدي فأوصاه في خاصة نفسه وبأهل بيته وبسائر المسلمين خيرا، وعلمه كيف تفعل الأشياء وتسد الثغور، وأوصاه بوصايا يطول بسطها وحرج عليه أن لا يفتح شيئا من خزائن المسلمين حتى يتحقق وفاته فإن بها من الأموال ما يكفي المسلمين لو لم يجب إليهم من الخراج درهم عشر سنين، وعهد إليه أن يقضي ما عليه من الدين هو ثلاثمائة ألف دينار (1)، فإنه لم ير قضاءها من بيت المال. فامتثل المهدي ذلك كله. وأحرم المنصور بحج وعمرة من الرصافة وساق بدنه وقال: يا بني إني ولدت في ذي الحجة وقد وقع لي أن أموت في ذي الحجة، وهذا الذي جرأني على الحج عامي هذا. وودعه وسار واعتراه مرض الموت في أثناء الطريق فما دخل مكة إلا وهو ثقيل جدا، فلما كان بآخر منزل نزله دون مكة إذا في صدر منزله مكتوب: (بسم الله الرحمن الرحيم).
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت * سنوك وأمر الله لا بد واقع (2) أبا جعفر هل كاهن أو منجم * لك اليوم من كرب (3) المنية مانع فدعا بالحجبة فأقرأهم ذلك فلم يروا شيئا فعرف أن أجله قد نعي إليه. قالوا: ورأى المنصور في منامه ويقال بل هتف به هاتف وهو يقول:
أما ورب السكون والحرك * إن المنايا كثيرة الشرك عليك يا نفس إن أسأت وإن * أحسنت (4) يا نفس كان ذلك لك ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل السلطان عن ملك * إذا انقضى ملكه إلى ملك حتى يصيرانه إلى ملك * ما عز سلطانه بمشترك ذاك بديع السماء والأرض والمر * سي لجبال المسخر الفلك