اللون موفر اللمة خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى الانف، أعين كأن عينيه لسانان ناطقان، يخالطه أبهة الملك، وتقبله القلوب، وتتبعه العيون، يعرف الشرف في مواضعه، والعنف في صورته، والليث في مشيته، هكذا وصفه بعض من رآه. وقد صح عن ابن عباس أنه قال: " منا السفاح والمنصور " وفي رواية " حتى نسلمها إلى عيسى بن مريم ". وقد روي مرفوعا ولا يصح ولا وقفه أيضا. وذكر الخطيب أن أمه سلامة قالت: رأيت حين حملت به كأنه خرج مني أسد فزأر واقفا على يديه، فما بقي أسد حتى جاء فسجد له. وقد رأى المنصور في صغره مناما غريبا كان يقول: ينبغي أن يكتب في ألواح الذهب، ويعلق في أعماق الصبيان. قال: رأيت كأني في المسجد الحرام وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة والناس مجتمعون حولها، فخرج من عنده مناد: أين عبد الله؟ فقام أخي السفاح يتخطى الرجال حتى جاء باب الكعبة فأخذ بيده فأدخله إياها، فما لبث أن خرج ومعه لواء أسود. ثم نودي أين عبد الله؟ فقمت أنا وعمي عبد الله بن علي نستبق، فسبقته إلى باب الكعبة فدخلتها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وبلال، فعقد لي لواء وأوصاني بأمته وعممني عمامة كورها ثلاثة وعشرون كورا، وقال: " خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة ".
وقد اتفق سجن المنصور في أيام بني أمية فاجتمع به نوبخت المنجم وتوسم فيه الرياسة فقال له:
ممن تكون؟ فقال: من بني العباس، فلما عرف منه نسبه وكنيته قال: أنت الخليفة الذي تلي الأرض.
فقال له: ويحك ماذا تقول؟ فقال: هو ما أقول لك، فضع لي خطك في هذه الرقعة أن تعطيني شيئا إذا وليت. فكتب له، فلما ولي أكرمه المنصور وأعطاه وأسلم نوبخت على يديه، وكان قبل ذلك مجوسيا.
ثم كان من أخص أصحاب المنصور. وقد حج المنصور بالناس سنة أربعين ومائة، وأحرم من الحيرة، وفي سنة أربع وأربعين، وفي سنة سبع وأربعين. وفي سنة ثنتين وخمسين، ثم في هذه السنة التي مات فيها. وبنى بغداد والرصافة والرافقة وقصره الخلد.
قال الربيع بن يونس الحاجب: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. والملوك أربعة: معاوية وعبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، وأنا. وقال مالك: قال لي المنصور: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: أبو بكر. وعمر. فقال: أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين. وعن إسماعيل البهري قال: سمعت المنصور على منبر عرفة يوم عرفة يقول: أيها الناس! إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلا فإن شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه قفلني. فارغبوا إلى الله أيها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهبكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) [المائدة: 3]. أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والاحسان إليكم ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، فإنه سميع مجيب.