تقشفا من شعبة، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك، ولا أحفظ للحديث من الثوري. وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلت على شعبة في وقت صلاة إلا ورأيته يصلي، وكان أبا للفقراء وأما لهم. وقال النضر ابن شميل: ما رأيت أرحم بمسكين منه، كان إذا رأى مسكينا لا يزال ينظر إليه حتى يغيب عنه. وقال غيره: ما رأيت أعبد منه لقد عبد الله حتى لصق جلده بعظمه. وقال يحيى القطان: ما رأيت أرق للمسكين منه، كان يدخل المسكين في منزله فيعطيه ما أمكنه. قال محمد بن سعد وغيره: مات في أول سنة ستين ومائة في البصرة عن ثمان وسبعين سنة.
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة فيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد فنزل دابق، وجاشت الروم عليه فلم يتمكن المسلمون من الدخول إليها بسبب ذلك. وفيها أمر المهدي بحفر الركايا وعمل المصانع وبناء القصور في طريق مكة وولى يقطين بن موسى على ذلك، فلم يزل يعمل في ذلك إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، مقدار عشر سنين، حتى صارت طريق الحجاز من العراق من أرفق الطرقات وآمنها وأطيبها. وفيها وسع المهدي جامع البصرة من قبلته وغربه. وفيها كتب إلى الآفاق أن لا تبقى مقصورة في مسجد جماعة، وأن تقصر المنابر إلى مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك في المدائن كلها. وفيها اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي وظهرت عنده خيانته فضم إليه المهدي من يشرف عليه، وكان ممن ضم إليه إسماعيل بن علية، ثم أبعده وأقصاه وأخرجه من معسكره. وفيها ولى القضاء عافية بن يزيد الأزدي وكان يحكم هو وابن علاثة في عسكر المهدي بالرصافة. وفيها خرج رجل يقال له المقنع بخراسان في قرية في قرى مرو، وكان يقول بالتناسخ واتبعه على ذلك خلق كثير، فجهز إليه المهدي عدة من أمرائه وأنفذ إليه جيوشا كثيرة، منهم معاذ بن مسلم أمير خراسان، وكان من أمره وأمرهم ما سنذكره.
وحج بالناس فيها موسى الهادي بن المهدي. وفيها توفي إسرائيل بن يونس بن إسحاق السبيعي وزائدة بن قدامة وسفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أحد أئمة الاسلام وعبادهم والمقتدى به أبو عبد الله الكوفي. روى عن غير واحد من التابعين (1) وروى عنه خلق من الأئمة وغيرهم، قال شعبة وأبو عاصم وسفيان بن عيينة ويحيى بن معين وغير واحد: هو أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ هو أفضلهم. وقال أيوب: ما رأيت كوفيا أفضله عليه. وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أفضل منه. وقال عبد الله: ما رأيت أفقه من الثوري. وقال شعبة: ساد الناس بالورع والعلم. وقال: أصحاب المذاهب ثلاثة: ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه. وقال الإمام أحمد: لا يتقدمه في قلبي أحد. ثم قال: تدري من الامام؟ الامام سفيان الثوري. وقال عبد الرزاق: سمعت الثوري يقول: ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني حتى