من سبي السند فنزل الأوزاع فغلب عليه النسبة إليها. وقال غيره: ولد ببعلبك ونشأ بالبقاع يتيما في حجر أمه، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد، وتأدب بنفسه، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه، ولا أورع ولا أعلم، ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم، ولا أكثر صمتا منه، ما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه، من حسنها، وكان يعاني الرسائل والكتابة، وقد اكتتب مرة في بعث إلى اليمامة فسمع من يحيى بن أبي كثير وانقطع إليه فأرشده إلى الرحلة إلى البصرة ليسمع من الحسن وابن سيرين. فسار إليها فوجد الحسن قد توفي من شهرين ووجد ابن سيرين مريضا، فجعل يتردد لعيادته، فقوي المرض به ومات ولم يسمع منه الأوزاعي شيئا. ثم جاء فنزل دمشق بمحلة الأوزاع خارج باب الفراديس، وساد أهلها في زمانه وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغير ذلك من علوم الاسلام. وقد أدرك خلقا من التابعين وغيرهم، وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين، كمالك بن أنس والثوري والزهري، وهو من شيوخه. وأثنى عليه غير واحد من الأئمة، وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته. قال مالك: كان الأوزاعي إماما يقتدى به. وقال سفيان بن عيينة وغيره: كان الأوزاعي إمام أهل زمانه، وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: أفسحوا للشيخ حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه. وقد تذاكر مالك والأوزاعي مرة بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر، ومن العصر حتى صليا المغرب، فغمره الأوزاعي في المغازي، وغمره مالك في الفقه. أو في شئ من الفقه. وتناظر الأوزاعي والثوري في مسجد الخيف في مسألة رفع اليدين في الركوع والرفع منه. فاحتج الأوزاعي على الرفع في ذلك بما رواه عن الزهري عن سالم عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه ". واحتج الثوري على ذلك بحديث يزيد بن أبي زياد. فغضب الأوزاعي وقال: تعارض حديث الزهري بحديث يزيد بن أبي زياد وهو رجل ضعيف؟ فاحمر وجه الثوري، فقال الأوزاعي: لعلك كرهت ما قلت؟ قال: نعم. قال: فقم بنا حتى نلتعن عند الركن أينا على الحق. فسكت الثوري. وقال هقل بن زياد: أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة بحدثنا.
وأخبرنا. وقال أبو زرعة: روي عنه ستون ألف مسألة. وقال غيرهما: أفتى في سنة ثلاث عشرة ومائة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ثم لم يزل يفتي حتى مات وعقله زاك. وقال يحيى القطان عن مالك: اجتمع عندي الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة فقلت: أيهم أرجح؟ قال: الأوزاعي. وقال محمد بن عجلان: لم أر أحدا أنصح للمسلمين من الأوزاعي. وقال غيره: ما رئي الأوزاعي ضاحكا مقهقها قط، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط وكان إذا خلى بكى حتى يرحم. وقال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري، وأبو حنيفة ومالك، والأوزاعي. قال أبو حاتم: كان ثقة متبعا لما سمع. قالوا: وكان الأوزاعي لا يلحن في كلامه، وكانت كتبه ترد على المنصور فينظر فيها ويتأملها ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها. وقد قال المنصور يوما لاحظي كتابه عنده - وهو سليمان بن مجالد -: ينبغي أن نجيب الأوزاعي على ذلك