ببعضها، وإن هذا الامر كان لمن قبلك ثم صار إليك ثم هو صائر لمن بعدك، واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة. فبكى المنصور أشد من بكائه الأول حتى اختلفت أجفانه. فقال له سليمان بن مجالد: رفقا بأمير المؤمنين. فقال عمرو: وماذا على أمير المؤمنين أن يبكي من خشية الله عز وجل. ثم أمر له المنصور بعشرة آلاف درهم فقال: لا حاجة لي فيها. فقال المنصور: والله لتأخذنها. فقال: والله لا آخذنها.
فقال له المهدي وهو جالس في سواده وسيفه إلى جانب أبيه: أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟ فالتفت إلى المنصور فقال: ومن هذا؟ فقال: هذا ابني محمد ولى العهد من بعدي. فقال عمرو: إنك سميته اسما لم يستحقه لعمله، وألبسته لبوسا ما هو لبوس الأبرار، ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه. ثم التفت إلى المهدي فقال: يا بن أخي! إذا حلف أبوك وحلف عمك فلان يحنث أبوك أيسر من أن يحنث عمك، لان أباك أقدر على الكفارة من عمك. ثم قال المنصور: يا أبا عثمان هل من حاجة؟ قال: نعم! قال: وما هي؟ قال: لا تبعث إلي حتى آتيك. ولا تعطني حتى أسألك.
فقال المنصور: إذا والله لا نلتقي. فقال عمرو: عن حاجتي سألتني. فودعه وانصرف. فلما ولى أمده بصره وهو يقول:
كلكم يمشي (1) رويد * كلكلم يطلب (2) صيد غير عمرو بن عبيد ويقال إن عمرو بن عبيد أنشد المنصور قصيدة في موعظته إياه وهي قوله.
يا أيهذا الذي قد غره الامل * ودون ما يأمل التنغيص والأجل ألا ترى إنما الدنيا وزينتها * كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا حتوفها رصد وعيشها نكد * وصفوها كدر وملكها دول تظل تقرع بالروعات ساكنها * فما يسوغ له لين ولا جذل كأنه للمنايا والردى غرض * تظل فيه بنات الدهر تنتقل (3) تديره ما تدور به دوائرها * منها المصيب ومنها المخطئ الزلل والنفس هاربة والموت يطلبها * وكل عسرة رجل عندها جلل (4) والمرء يسعى بما يسعى (5) لوارثه * والقبر وارث ما يسعى له الرجل