وقال القاضي أبو بكر: إنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا، مع تراخيه عنه، وهو اختيار الغزالي أيضا، وقصد بالقيد الأول تعميم كل خطاب كان من باب المنظوم أو غيره، والاحتراز عن الموت والمرض والجنون وجميع الاعذار الدالة على ارتفاع الاحكام الزائلة بها مع تراخيها، ولولاها لكانت الاحكام الزائلة بها مستمرة، وبالقيد الثاني، وهو الخطاب المتقدم، الاحتراز عن الخطاب الدال على ارتفاع الاحكام العقلية قبل ورود الشرع، وبالقيد الثالث، وهو على وجه لولاه لكان مستمرا، الاحتراز عما إذا ورد الخطاب بحكم موقت، ثم ورد الخطاب عند تصرم ذلك الوقت بحكم مناقض للأول، كما لو ورد قوله عند غروب الشمس كلوا بعد قوله: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (2) البقرة: 187) فإنه لا يكون نسخا لحكم الخطاب الأول، حيث إنه لو قدرنا عدم الخطاب الثاني، لم يكن حكم الخطاب الأول مستمرا، بل منتهيا بالغروب، وبالقيد الرابع الاحتراز عن الخطاب المتصل، كالاستثناء والتقييد بالشرط والغاية، فإنه يكون بيانا لا نسخا ويرد عليه إشكالات:
الاشكال الأول: أن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت هو الناسخ والنسخ هو نفس الارتفاع، فلا يكون الناسخ هو النسخ.
الثاني: وهو ما أورده أبو الحسين البصري أنه قال إنه ليس بجامع ولا مانع:
أما أنه ليس بجامع، فلانه يخرج منه النسخ بفعل الرسول، مع أنه ليس بخطاب، ويخرج منه نسخ ما ثبت بفعل الرسول وليس فيه ارتفاع حكم ثبت بالخطاب.
وأما أنه ليس بمانع، فلانه لو اختلفت الأمة في الواقعة على قولين، وأجمعوا بخطابهم على تسويغ الاخذ بكل واحد من القولين للمقلد، ثم أجمعوا بأقوالهم على أحد القولين، فإن حكم خطاب الاجماع الثاني دل على ارتفاع حكم خطاب الاجماع الأول، وليس بنسخ إذ الاجماع لا ينسخ به