أبو علي الفارسي، فقوله: لم يتسنن. أي الشراب بقي بحاله لم ينضب، وقد أتى عليه مائة عام، ثم أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني، فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف، وأما بيان الإثبات فهو أن * (لم يتسنه) * مأخوذ من السنة، والسنة أصلها سنهه، بدليل أنه يقال في تصغيرها: سنيهة، ويقال: سانهت النخلة بمعنى عاومت، وآجرت الدار مسانهة، وإذا كان كذلك فالهاء في * (لم يتسنه) * لام الفعل، فلا جرم لم يحذف البتة لا عند الوصل ولا عند الوقف.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (لم يتسنه) * أي لم يتغير وأصل معنى * (لم يتسنه) * أي لم يأت عليه السنون لأن مر السنين إذا لم يتغير فكأنها لم تأت عليه، ونقلنا عن أبي علي الفارسي: لم يتسنن أي لم ينضب الشراب، بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: أنه تعالى لما قال: * (بل لبثت مائة عام) * كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يوما أو بعض يوم.
والجواب: أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال: * (بل لبثت مائة عام) * قال: * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * فإن هذا مما يؤكد قولك * (لبثت يوما أو بعض يوم) * فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة، ثم قال بعده * (وانظر إلى حمارك) * فرأى الحمار صار رميما وعظاما نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما، والحمار ربما بقي دهرا طويلا وزمانا عظيما، فرأى ما لا يبقى باقيا، وهو الطعام والشراب، وما يبقى غير باق وهو العظام، فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه.
السؤال الثاني: أنه تعالى ذكر الطعام والشراب، وقوله * (لم يتسنه) * راجع إلى الشراب لا إلى الطعام.
والجواب: كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير، كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير، لا سيما إذا كان الطعام لطيفا يتسارع الفساد إليه، والمروي أن طعامه كان التين والعنب، وشرابه كان عصير العنب واللبن، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه * (وانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن) *.