ألا ترى أن من رأى في ثوبه دما فأخر إزالته إلى أن نسي فصلى وهو على ثوبه عد مقصرا، إذ كان يلزمه المبادر إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه، ومن رمى صيدا في موضع فأصاب إنسانا فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوما أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنسانا كان ههنا معذورا، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون ملوما، وأما إذا واظب على القراءة، لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذورا، فثبت أن النسيان على قسمين، منه ما يكون معذورا، ومنه ما لا يكون معذورا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطا في أصبعه فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذورا، وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء.
الوجه الثاني في الجواب: أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعارا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل: إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به.
الوجه الثالث في الجواب: أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى، لا طلب الفعل، ولذلك فإن الداعي كثيرا ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع، قال الله تعالى: * (قال رب احكم بالحق) * (الأنبياء: 112) وقال: * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة) * (آل عمران: 194) وقالت الملائكة في دعائهم * (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) * (غافر: 7) فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء.
الوجه الرابع في الجواب: أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلا، وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذا فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس، فلما كان ذلك جائزا في العقول، لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء.
الوجه الخامس: أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنه جائز عقلا من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه.
والقول الثاني: في تفسير النسيان، أن يحمل على الترك، قال الله تعالى: * (فنسي ولم نجد له عزما) * (طه: 115)