أجاب الأصحاب فقالوا:
أما الوجه الأول: فمدفوع من وجهين الأول: أنه لو كان قوله * (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * محمولا على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله * (ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * واحدا فتكون هذه الآية تكرارا محضا وذلك غير جائز الثاني: أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة، فقوله * (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة.
وأما الوجه الثاني: فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف، قال الله تعالى: * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات) * (الأحزاب: 72) إلى قوله * (وحملها الإنسان) * (الأحزاب: 72) ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله * (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز.
وأما الوجه الثالث: فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعا لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ويصير ذلك جاريا مجرى من يقول في دعائه وتضرعه: ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثا، كما أن ذلك غير جائز، فكذا ما ذكرتم.
إذا ثبت هذا فنقول: هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكا في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل وبالله التوفيق.
المسألة الثالثة: إعلم أنه بقي في الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم قال في الآية الأولى * (لا تحمل علينا إصرا) * وقال في هذه الآية * (لا تحملنا) * خص ذلك بالحمل وهذا بالتحميل.
الجواب: أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدورا لا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن وأما الشاق فالحمل والتحميل يمكنان فيه، فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل.
السؤال الثاني: أنه لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق قوله * (لا تحمل علينا إصرا) * كان من لوازمه أن لا يكلفه ما لا يطاق، وعلى هذا التقدير كان عكس هذا الترتيب أولى.
والجواب: الذي أتخيله فيه والعلم عند الله تعالى أن للعبد مقامين أحدهما: قيامه بظاهر الشريعة والثاني: شروعه في بدء المكاشفات، وذلك هو أن يشتغل بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمته