المسألة الأولى: أن في كيفية النظم وجهين الأول: أن الله سبحانه لما ذكر قبل هذا الحكم نوعين من الحكم أحدهما: الإنفاق في سبيل الله وهو يوجب تنقيص المال والثاني: ترك الربا، وهو أيضا سبب لتنقيص المال، ثم إنه تعالى ختم ذينك الحكمين بالتهديد العظيم، فقال: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * والتقوى تسد على الإنسان أكثر أبواب المكاسب والمنافع أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والبوار فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله، وعلى ترك الربا، وعلى ملازمة التقوى لا يتم ولا يكمل إلا عند حصول المال، ثم إنه تعال لأجل هذه الدقيقة بالغ في الوصية بحفظ المال الحلال عن وجوه التوي والتلف، وقد ورد نظيره في سورة النساء * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * (النساء: 5) فحث على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سببا لمصالح المعاش والمعاد، قال القفال رحمه الله تعالى: والذي يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسط شديد، ألا ترى أنه قال: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * ثم قال ثانيا: * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * ثم قال ثالثا: * (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * فكان هذا كالتكرار لقوله * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * لأن العدل هو ما علمه الله، ثم قال رابعا: * (فليكتب) * وهذا إعادة الأمر الأول، ثم قال خامسا: * (وليملل الذي عليه الحق) * وفي قوله * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * كفاية عن قوله * (فليملل الذي عليه الحق) * لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادسا: * (وليتق الله ربه) * وهذا تأكيد، ثم قال سابعا: * (ولا يبخس منه شيئا) * فهذا كالمستفاد من قوله * (وليتق الله ربه) * ثم قال ثامنا: * (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) * وهو أيضا تأكيد لما مضى، ثم قال تاسعا: * (ذلكم أقسط عند الله وأقوم الشهادة وأدنى أن لا ترتابوا) * فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة، وكل ذلك يدل على أنه لما حث على ما يجري مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال، وصونه عن الهلاك والبوار ليتمكن الإنسان بواسطته من الانفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره، والمواظبة على تقوى الله فهذا هو الوجه الأول من وجوه النظم، وهو حسن لطيف.
والوجه الثاني: أن قوما من المفسرين قالوا: المراد بالمداينة السلم، فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم، ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا