بسبب العدو، وعلى هذا القول حجة أبي حنيفة تكون ظاهرة أيضا، لأن الله تعالى علق الحكم على مسمى الإحصار، فوجب أن يكون الحكم ثابتا عند حصول الإحصار سواء حصل بالعدو أو بالمرض وأما على القول الثالث: وهو أن الإحصار اسم للمنع الحاصل بالعدو، فهذا القول باطل باتفاق أهل اللغة وبتقدير ثبوته فنحن نقيس المرض على العدو بجامع دفع الحرج وهذا قياس جلي ظاهر فهذا تقرير قول أبي حنيفة رضي الله عنه وهو ظاهر قوي، وأما تقرير مذهب الشافعي رضي الله عنه، فهو أنا ندعي أن المراد بالإحصار في هذه الآية منع العدو فقط، والروايات المنقولة عن أهل اللغة معارضة بالروايات المنقولة عن ابن عباس وابن عمر، ولا شك أن قولهما أولى لتقدمهما على هؤلاء الأدنى في معرفة اللغة وفي معرفة تفسير القرآن، ثم إنا بعد ذلك نؤكد هذا القول بوجوه من الدلائل.
الحجة الأولى: أن الإحصار إفعال من الحصر والأفعال تارة يجئ بمعنى التعدية نحو: ذهب زيد وأذهبته أنا، ويجئ بمعنى صار ذا كذا نحو: أغد البعير إذا صار ذا غدة، وأجرب الرجل إذا صار ذا أبل جربى ويجئ بمعنى وجدته بصفة كذا نحو: أحمدت الرجل أي وجدته محمودا والإحصار لا يمكن أن يكون للتعدية، فوجب إما حمله على الصيرورة أو على الوجدان والمعنى: أنهم صاروا محصورين أو وجدوا محصورين، ثم إن أهل اللغة اتفقوا على أن المحصور هو الممنوع بالعدو لا بالمرض، فوجب أن يكون معنى الاحصار هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدو، أو وجدوا ممنوعين بالعدو، وذلك يؤكد مذهبنا.
الحجة الثانية: أن الحصر عبارة عن المنع وإنما يقال للإنسان إنه ممنوع من فعله ومحبوس عن مراده، إذا كان قادرا عن ذلك الفعل متمكنا منه، ثم إنه منعه مانع عنه، والقدرة عبارة عن الكيفية الحاصلة بسبب اعتدال المزاج وسلامة الأعضاء، وذلك مفقود في حق المريض فهو غير قادر البتة على الفعل، فيستحيل الحكم عليه بأنه ممنوع، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضى، أما إذا كان ممنوعا بالعدو فههنا القدرة على الفعل حاصلة، إلا أنه تعذر الفعل لأجل مدافعة العدو، فصح ههنا أن يقال إنه ممنوع من الفعل، فثبت أن لفظة الاحصار حقيقة في العدو، ولا يمكن أن تكون حقيقة في المرض.
الحجة الثالثة: أن معنى قوله: * (أحصرتم) * أي حبستم ومنعتم والحبس لا بد له من حابس، والمنع لا بد له من مانع، ويمتنع وصف المرض بكونه حابسا ومانعا، لأن الحبس والمنع فعل، وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلا، لأن المرض عرض لا يبقى زمانين، فكيف يكون فاعلا