السفر مقصود في الحج، بدليل أن من أوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من وطنه، ولولا أن السفر مقصود في الحج لكان يحج عنه من أدنى المواقيت، ويدل عليه أيضا أنهم قالوا لو نذر أن يحج ماشيا وحج راكبا يلزمه دم، فثبت أن السفر مقصود والقران يقتضي تقليل السفر، لأن بسببه يصير السفران سفرا واحدا، فثبت أن الاتمام لا يحصل إلا بالافراد الثاني: أن الحج لا معنى له إلا زيارة بقاع مكرمة، ومشاهد مشرفة، والحاج زائر الله، والله تعالى مزوره، ولا شك أنه كلما كانت الزيارة والخدمة أكثر كان موقعها عند المخدوم أعظم، وعند القران تنقلب الزيارتان زيارة واحدة، بل الحق أن جملة أنواع الطاعات في الحج وفي العمرة تكرر عند الافراد، وتصير واحدة عند القران، فثبت أن الافراد أقرب إلى التمام، فكان الافراد إن لم يكن واجبا عليكم بحكم هذه الآية فلا أقل من كونه أفضل.
الحجة الثانية: في بيان أن الافراد أفضل: أن الافراد يقتضي كونه آتيا بالحج مرة، ثم بالعمرة بعد ذلك، فتكون الأعمال الشاقة في الأفراد أكثر فوجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام: " أفضل الأعمال أحمزها " أي أشقها.
الحجة الثالثة: أنه عليه السلام كان مفردا فوجب أن يكون الإفراد أفضل، أما قولنا: إنه كان مفردا فاعلم أن الصحابة اختلفت رواياتهم في هذا المعنى، فروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج، وروى جابر وابن عمر أنه أفرد، وأما أنس فقد روى عنه أنه قال: كنت واقفا عند جران ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لعابها يسيل على كتفي، فسمعته يقول " لبيك بحج وعمرة معا " ثم الشافعي رضي الله عنه رجح رواية عائشة رضي الله عنها وجابر وابن عمر على رواية أنس من وجوه أحدها: بحال الرواة، أما عائشة فلأنها كانت عالمة، ومع علمها كانت أشد الناس التصاقا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشد الناس وقوفا على أحواله، وأما جابر فإنه كان أقدم صحبة للرسول صلى الله عليه وسلم من أنس، وإن أنسا كان صغيرا في ذلك الوقت قبل العلم، وأما ابن عمر فإنه كان مع فقهه أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره، لأن أخته حفصة كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم والثاني: أن عدم القران متأكد بالاستصحاب والثالث: أن الافراد يقتضي تكثير العبادة، والقران يقتضي تقليلها، فكان إلحاق الإفراد بالنبي عليه الصلاة والسلام أولى، وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا وجب أن يكون الافراد أفضل لأنه عليه الصلاة والسلام كان يختار الأفضل لنفسه، ولأنه قال: " خذوا عني مناسككم " أي تعلموا مني.