الإحصار اسما لمنع المرض، لكان سبب نزول الآية خارجا عنها، وذلك باطل بالإجماع، فثبت بما ذكرنا أن الإحصار في هذه الآية عبارة عن منع العدو، وإذا ثبت هذا فنقول: لا يمكن قياس منع المرض عليه، وبيانه من وجهين: الأول: أن كلمة: إن، شرط عند أهل اللغة، وحكم الشرط انتفاء المشروط عن انتفائه ظاهرا، فهذا يقتضي أن لا يثبت الحكم إلا في الإحصار الذي دلت الآية عليه، فلو أثبتا هذا الحكم في غيره قياسا كان ذلك نسخا للنص بالقياس، وهو غير جائز.
الوجه الثاني: أن الإحرام شرع لازم لا يحتمل النسخ قصدا، ألا ترى أنه إذا جامع امرأته حتى فسد حجه لم يخرج من إحرامه، وكذلك لو فاته الحج حتى لزمه القضاء والمرض ليس كالعدو، ولأن المريض لا يستفيد بتحلله ورجوعه أمنا من مرضه، أما المحصر بالعدو فإنه خائف من القتل إن أقام، فإذا رجع فقد تخلص من خوف القتل، فهذا ما عندي في هذه المسألة على ما يليق بالتفسير.
أما قوله: * (فما استيسر من الهدي) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال القفال رحمه الله: في الآية إضمار، والتقدير: فحللتم فما استيسر، وهو كقوله: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184) أي فأفطر فعدة، وفيها إضمار آخر، وذلك لأن قوله: * (فما استيسر من الهدي) * كلام غير تنام لا بد فيه من إضمار، ثم فيه احتمالان: أحدهما: أن يقال: محل، ما: رفع، والتقدير: فواجب عليكم ما استيسر والثاني: قال الفراء: لو نصبت على معنى: اهدوا ما تيسر كان صوابا، وأكثر ما جاء في القرآن من أشباهه مرفوع.
المسألة الثانية: * (استيسر) * بمعنى تيسر، ومثله: استعظم، أي تعظم واستكبر: أي تكبر، واستصعب: أي تصعب.
المسألة الثالثة: * (الهدي) * جمع هدية، كما تقول: تمر وتمرة، قال أحمد بن يحيى: أهل الحجاز يخففون * (الهدي) * وتميم تثقله، فيقولون: هدية، وهدي ومطية، ومطي، قال الشاعر:
حلفت برب مكة والمصلى * وأعناق الهدى مقلدات ومعنى الهدي: ما يهدى إلى بيت الله عز وجل تقربا إليه، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره تقربا إليه، ثم قال علي وابن عباس والحسن وقتادة: الهدي أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس.
المسألة الرابعة: المحصر إذا كان عالما بالهدي، هل له بدل ينتقل إليه؟ للشافعي رضي الله عنه فيه قولان: أحدهما: لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبدا، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه،