أنه ما كان موجودا قبل ذلك وأنه صار الآن موجودا وأن كل ما وجد بعد العدم فلا بد له من موجد وذلك الموجد ليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس، لأن عجز الخلق عن مثل هذا التركيب معلوم بالضرورة فلا بد من موجد يخالف هذه الموجودات حتى يصح منه إيجاد هذه الأشخاص إلا أن لقائل أن يقول ههنا: لم لا يجوز أن يكون المؤثر طبائع الفصول والأفلاك والنجوم؟ ولما كان هذا السؤال محتملا ذكر الله تعالى عقيبه ما يدل على افتقار هذه الأشياء إلى المحدث والموجد وهو قوله: * (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) * وهو المراد من دلائل الآفاق ويندرج فيها كل ما يوجد من تغييرات أحوال العالم من الرعد والبرق والرياح والسحاب واختلاف الفصول، وحاصلها يرجع إلى أن الأجسام الفلكية والأجسام العنصرية مشتركة في الجسمية، فاختصاص بعضها ببعض الصفات من المقادير والأشكال والأحياز لا يمكن أن يكون للجسمية ولا لشيء من لوازمها. وإلا وجب اشتراك الكل في تلك الصفات فلا بد وأن يكون لأمر منفصل، وذلك الأمر إن كان جسما عاد البحث في أنه لم اختص بتلك المؤثرية من بين تلك الأجسام، وإن لم يكن جسما فإما أن يكون موجبا أو مختارا. والأول باطل، وإلا لم يكن اختصاص بعض الأجسام ببعض الصفات أولى من العكس فلا بد وأن يكون قادرا، فثبت بهذه الدلالة افتقار جميع الأجسام إلى مؤثر قادر ليس بجسم، ولا بجسماني، وعند هذا ظهر أن الاستدلال بحدوث الأعراض على وجود الصانع لا يكفي إلا بعد الاستعانة بإمكان الأعراض والصفات، وإذا عرفت هذا فنقول: إن الله تعالى إنما خص هذا النوع من الأدلة بالإيراد في أول كتابه لوجهين: الأول: أن هذا الطريق لما كان أقرب الطرق إلى أفهام الخلق وأشدها التصاقا بالعقول، وكانت الأدلة المذكورة في القرآن يجب أن تكون أبعدها عن الدقة وأقربها إلى الأفهام لينتفع به كل أحد من الخواص والعوام لا جرم ذكر الله تعالى في أول كتابه ذلك. الثاني: أنه ليس الغرض من الدلائل القرآنية المجادلة، بل الغرض منها تحصيل العقائد الحقة في القلوب، وهذا النوع من الدلائل أقوى من سائر الطرق في هذا الباب، لأن هذا النوع من الدلائل كما يفيد العلم بوجود الخالق فهو يذكر نعم الخالق علينا، فإن الوجود والحياة من النعم العظيمة علينا، وتذكير النعم مما يوجب المحبة وترك المنازعة وحصول الانقياد، فلهذا السبب كان ذكر هذا النوع من الأدلة أولى من سائر الأنواع. واعلم أن للسلف طرقا لطيفة في هذا الباب، أحدها: يروى أن بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق رضي الله عنه. فقال جعفر: هل ركبت البحر؟ قال نعم. قال هل رأيت أهواله؟ قال بلى؛ هاجت يوما رياح هائلة فكسرت السفن وغرقت الملاحين، فتعلقت أنا ببعض ألواحها ثم ذهب عني ذلك اللوح فإذا أنا مدفوع في تلاطم الأمواج حتى دفعت إلى الساحل، فقال جعفر قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح ثم على اللوح حتى تنجيك، فلما ذهبت هذه الأشياء عنك هل أسلمت
(٩٨)