التأمل والتدبر والاستفادة، والأول باطل، وإلا لوجب أن يحصل ذلك لكل الناس وهو مكابرة ولأنا نجرب أذكى الناس في هذا العلم فلا يمكنه تحصيله في السنين المتطاولة بعد الاستعانة بالأستاذ والتصانيف. وإن كان الثاني وجب أن لا يحصل ذلك العلم للإنسان، إلا بعد الممارسة الشديدة والمباحثة الكثيرة، فلو كان الدين مبنيا عليه، لوجب أن لا يحكم الرسول بصحة إسلام الرجل إلا بعد أن يسأله عن هذه المسائل، ويجربه في معرفة هذه الدلائل على الاستقصاء. ولو فعل الرسول ذلك لاشتهر ولما لم يشتهر بل المشهور المنقول عنه بالتواتر أنه كان يحكم بإسلام من يعلم بالضرورة أنه لم يخطر بباله شيء من ذلك، علمنا أن ذلك غير معتبر في صحة الدين، فإن قيل: معرفة أصول الدلائل حاصلة لأكثر العقلاء، إنما المحتاج إلى التدقيق دفع الأسئلة والجواب عن الشبهات وذلك غير معتبر في صحة أصل الدين، قلنا هذا ضعيف لأن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان البتة، وذلك لأن الدليل إذا كان مبنيا على مقدمات عشرة فإن كان الرجل جاز ما بصحة تلك المقدمات كان عارفا بالدليل معرفة لا يمكن الزيادة عليها، لأن الزيادة عل تلك العشرة إن كان معتبرا في تحقق ذلك الدليل بطل قولنا إن ذلك الدليل مركب من العشرة فقط، وإلا لم يكن معتبرا لم يكن العلم به علما بزيادة شيء في الدليل، بل يكون علما منفصلا. فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان أيضا، لأن تسعة منها لو كانت يقينية وكانت المقدمة العاشرة ظنية استحال كون المطلوب يقينيا لأن المبني على الظني أولى أن يكون ظنيا فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان وبطل ببطلانه ذلك السؤال مثاله إذا رأى الإنسان حدوث مطر ورعد وبرق بعد أن كان الهواء صافيا قال سبحان الله، فمن الناس من قال: إن قوله سبحان الله يدل على أنه عرف الله بدليله، وهذا باطل لأنه إنما يكون عارفا بالله إذا عرف بالدليل أن ذلك الحادث لا بد له من مؤثر ثم يعرف بالدليل أنه يستحيل أن يكون المؤثر فيه سوى الله تعالى، وهذه المقدمة الثانية إنما تستقيم لو عرف بالدليل أنه يستحيل إسناد هذا الحدوث إلى الفلك والنجوم، والطبيعة والعلة الموجبة. فإنه لو لم يعرف بطلان ذلك بالدليل لكان معتقدا لهذه المقدمة الثانية من غير دليل فتكون المقدمة تقليدية ويكون المبني عليها تقليدا لا يقينا فثبت بهذا فساد ما قلتموه. المقام الخامس: أن نقول الاشتغال بعلم الكلام بدعة، والدليل عليه القرآن والخبر والإجماع وقول السلف والحكم. أما القرآن فقوله تعالى: * (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) * (الزخرف: 58) ذم الجدل وقال أيضا: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) * (الأنعام: 68) قالوا: فأمر بالإعراض عنهم عند خوضهم في آيات الله تعالى وأما الخبر فقوله عليه السلام: " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق " وقوله عليه السلام: " عليكم بدين العجائز " وقوله: " إذا ذكر القدر فأمسكوا " وأما الإجماع فهو أن هذا علم لم تتكلم فيه الصحابة فيكون بدعة فيكون حراما، أما أن الصحابة ما تكلموا فيه فظاهر، لأنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نصب نفسه للاستدلال في
(٩٥)