بين زمزم والمقام وقال قوم: انها الأرض المعروفة وهو الظاهر وقوله: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وروي ان خلقا يقال لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله تعالى ملائكة أجلتهم من الأرض وقيل: ان هؤلاء الملائكة كانوا سكان الأرض بعد الجان فقالوا: يا ربنا أتجعل في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء على وجه الاستخبار منهم والاستعلام عن وجه المصلحة، والحكمة لا على وجه الانكار كأنهم قالوا إن كان هذا كما ظننا فعرفنا وجه الحكمة فيه وقال قوم: المعنى فيه ان الله اعلم الملائكة انه جاعل في الأرض خليفة وان الخليفة فرقة تسفك الدماء وهي فرقة من بني آدم فأذن الله للملائكة ان يسألوه عن ذلك وكان اعلامه إياهم هذا زيادة على التثبيت في نفوسهم انه يعلم الغيب فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوما يسفك الدماء، ويعصونك وإنما ينبغي انهم إذا عرفوا انك خلقتهم ان يسبحوا بحمدك كما نسبح ويقدسوا كما نقدس؟ ولم يقولوا: هذا إلا وقد اذن لهم، لأنهم لا يجوز ان يسألوا ما لا يؤذن لهم ما فيه، ويؤمرون به، لقوله: (ويفعلون ما يؤمرون) (1) فان قيل من أين لكم أنهم كانوا علموا ذلك؟ قيل ذلك محذوف لدلالة الكلام عليه، لأنا علمنا أنهم لا يعلمون الغيب وليس إذا فسد الجن في الأرض، وجب أن يفسد الانس وقوة السؤال تدل على أنهم كانوا عالمين وجرى ذلك مجرى قول الشاعر:
فلا تدفنوني إن دفني محرم * عليكم ولكن خامري أم عامر (2) فحذف قوله: دعوني للتي يقال لها إذا أريد صيدها خامري أم عامر فكأنه وقال: إني جاعل في الأرض خليفة يكون من ولده افساد في الأرض وسفك الدماء وقال أبو عبيدة والزجاج: أنهم قالوا ذلك على وجه الايجاب وإن خرج مخرج الاستفهام كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا * واندى العالمين بطون راح؟