وصنف نعيم بن حماد الخزاعي، (ت 228 ه) مسندا - وكان نزيل مصر.
ثم اقتفى الأئمة - بعد ذلك - أثرهم فقلما نجد إماما من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد، كالإمام أحمد بن حنبل، (ت 241 ه)، وإسحاق بن راهويه، (ت 238 ه)، وعثمان بن أبي شيبة، (ت 239 ه). وغيرهم من النبلاء ومنهم من صنف على الأبواب، وعلى المسانيد معا، كأبي بكر بن عبد الله بن أبي شيبة، (ت 235 ه).
فلما رأى البخاري - رحمه الله تعالى - هذه التصانيف ورواها، وانتشق رياها، واستحلى محياها، وجدها - بحسب الوضع - جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين، والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال لغثه سمين، تحركت همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين. وقوى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه - أمير المؤمنين في الحديث والفقه - إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه - وقد كان البخاري عنده -: لو جمعتهم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع " الجامع الصحيح ".
ثم تلاه تلميذه وصاحبه: أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، فصنف ثاني كتابين ملآ الدنيا وشغلا الناس، فكانا البداية - ونعمت البداية - وكانا النواة والمنهج للباحثين في هذا المضمار الشريف.
ولكنهما - رحمهما الله - لم يستوعبا الصحيح بما جمعاه، ولا التزما لذلك، وقد روينا عن البخاري أنه قال: " ما أدخلت في كتابي " الجامع " إلا ما صح، وتركت من الصحاح لملال الطول ".
وروينا عن مسلم أنه قال: " ليس كل شئ عندي صحيح وضعته هنا - يعنى في صحيحه - وإنما وضعت هنا ما أجمعوا على صحته ".
وروى الحازمي والإسماعيلي عن البخاري قوله: " وما تركت من الصحاح أكثر ".
وهذه النقول اعترف صريح منهما بأنهما لم يذكرا في كتابيهما كل الصحيح.
فالمجال إذا واسع، والميدان فسيح أمام من تتحقق فيه العزيمة، وصدق القصد، وسعة الاطلاع، ودقة النقد ليتم ما بدأ به هذان الإمامان العظيمان.