حذو الصحابة في حفظ الحديث وكتابته، فكان العالم منهم يتردد على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا في بلده فيحفظ مروياتهم، ويعقل فتاويهم، ويعي تأويلهم للآي الكريم.
واستقر الأمر على ذلك إلى رأس المئة الأولى من الهجرة في ولاية الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فرأى جمع الحديث والسنن، وتدوينها تدوينا عاما خشية أن يضيع منها شئ بموت حافظيها، فقد روى مالك في " الموطأ " برواية محمد بن الحسن أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - وكان إذ ذاك على إمرة المدينة المنورة موئل العلماء والحفاظ -: أن انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سنته، أو حديث عمر، أو نحو هذا، فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء، وأوصاه أن يكتب ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وهما على رأس من جمع حديث أم المؤمنين عائشة، وما عندهم من العلم.
وكتب أيضا إلى العالم الجليل، المحدث الحافظ محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري (ت 124 ه)، أن يدون الحديث والعلم، فكان كما قال أبو الزناد: " يطوف على العلماء، ومعه الألواح والصحف، يكتب كل ما يسمع ". ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلى طبقة الزهري، وأبى بكر بن حزم، فصنف عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، (ت 150 ه)، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، (ت 156 ه) بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري، (ت 161 ه) بالكوفة، وحماد بن سلمة بن دينار، (ت 176 ه) بالبصرة، ومعمر بن راشد، (ت 151 ه) باليمن، كتابه الجامع، ومحمد بن إسحاق، (ت 151 ه) صاحب السيرة والمغازي، وعبد الله بن المبارك، (ت 181 ه) بخراسان، وهشيم بن بشير (ت 188 ه) بواسط، وجرير بن عبد الحميد، (ت 188 ه) بالري، والليث بن سعد (ت 175 ه) بمصر.
ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وذلك على رأس المئتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي، (ت 213 ه) مسندا، وصنف مسدد بن مسر هد البصري، (ت 228 ه) مسندا، وصنف أسد بن موسى الأموي (ت 212 ه) مسندا،