طلب المنصور من مالك توحيد الفقه لكان الوقت أهم ما يراد اختزاله وعدم التفريط به، إذ كان بإمكان المنصور جمع عدد كبير من الفقهاء لتعيين دستور فقهي موحد للدولة بأسرع وقت، لا أن يستغرق مالك عشر سنين أو أكثر لتدوين كتاب واحد، والناس أحوج ما يكونون إليه.
فقد بدأ مالك بتأليف الموطأ سنة 148 ه وانتهى منه سنة 159 ه، فلا يعقل أن يتعطل قضاء أكبر دولة ويبقى مختلا كل هذه المدة المديدة.
ثالثها: هو ما يوصلنا إليه البحث الموضوعي، ويعضده ما نعرف من دهاء المنصور ومسلكه في التضليل، وهو: أن المنصور خاف من انتشار مذهب أهل البيت بعد أن اجتمع بباب جعفر بن محمد الصادق نحو أربعة آلاف راو يأخذون عنه العلم، فخشي المنصور من ميل الناس إليه، خصوصا وأن آراءه وأفكاره مما يرتضيه المنطق والعقل وتستند إلى التقوى والورع، وتؤكد على عدم التعاون مع الحكام، بل رفض كل مبدأ فاسد، وتدعو إلى العدل والصلاح.
وأن ذلك مما حدا بالحكام أن يرجحوا كفة أبي حنيفة ومالك ويتخذوهما أئمة دون غيرهم من الفقهاء ويؤكدوا على الأخذ برأيهم، واعتزال مذهب الصادق والباقر من أهل البيت، لأن تقوية مدرسة أهل البيت يشكل خطرا على الدولة ويخرج الأمر من يد الحكام، إذ عرفوا أن حبس الصادق أو قتله لا يجدي نفعا بعد شيوع فقهه في الناس، فرأوا محاربة الفكر بالفكر والفقه بالفقه هي الخطوة الناجحة، وبالفعل حققت هذه العملية أهدافها بعد حين، خصوصا مع ما عرف عن عامة الناس بأنهم على دين ملوكهم!
ولا يسعني هنا إلا أن أنقل كلاما للدهلوي في حجة الله البالغة، مضمونه: إن أبا يوسف ومحمد بن الحسن صارا يكبران في العيدين تكبير ابن عباس، لأن هارون الرشيد كان يحب تكبيرة جده (1)!
وقد ذكر الشاطبي - في القسم الخامس من الموافقات (كتاب الاجتهاد) - ما صار إليه كثير من مقلدة الفقهاء بحيث صار أحدهم يفتي قريبه أو صديقه بما لا