ثالثا - أنه لما أهمل المسلمون تنظيم السلطة التشريعية ولم يضعوا نظاما كفيلا بأن لا يجترئ على الاجتهاد إلا من هو أهل دبت الفوضى في التشريع والاجتهاد وادعى الاجتهاد من ليس أهلا له وتصدى لإفتاء المسلمين جهال عبثوا بنصوص الشريعة وبحقوق الناس ومصالحهم. وبهذا تعددت الفتاوى وتباينت وتبع هذا تعدد الأحكام في الأقضية حتى كان القضاء يختلف في الحادث الواحد في البلد الواحد فتستحل دماء وأموال في ناحية من نواحي المدينة وتستباح في ناحية أخرى منها وكل ذلك نافذ في المسلمين وكله يعتبر من أحكام الشريعة.
فلما فزع من هؤلاء العلماء حكموا في أواخر القرن الرابع بسد باب الاجتهاد وتقيد المفتين والقضاة بأحكام الأئمة السابقين فعالجوا الفوضى بالجمود.
رابعا - إن العلماء فشت فيهم أمراض خلقية حالت بينهم وبين السمو إلى مرتبة الاجتهاد فلقد فشا بينهم التحاسد والأنانية... فماتت روح النبوغ.
وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم وثقة الناس بهم فولوا وجههم مذاهب الأئمة السابقين (1).
لقد كانت البداية البحث عن المصلحة. فجاء الخلاف وانقسام الدولة الإسلامية وتناحر ملوكها وولاتها. ثم تجرأ على الفتوى اتباع الدوائر المختلفة الذين عبثوا بنصوص الشريعة وبحقوق الناس ومصالحهم وضرب التحاسد والأنانية وجوه العديد من العلماء. وعندما جف الوقود الذي يدفع بأصحابه نحو المستقبل ولوا وجوههم نحو الخلف حيث مذاهب السابقين. وإذا كان الأوائل قد اختلفوا في الفتوى نظرا لاختلاف البيئة. فإن الاختلاف من بعدهم أوسع لأن البيئة الواحدة تمزقت إلى ألف بيئة ومعطيات العصر ألقت بآلاف المسائل، فبماذا يجدي النظر إلى الخلف لحل مشكلات الحاضر؟ ألا يفتح ذلك الباب للدخول في سنين الأولين. وخصوصا أن عندهم من المصالح ما لا يخفى على أحد وما يغري العامة والخاصة على تقليدهم واتباعهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.