خاصة (1)... ثم جاء عهد التقليد الذي بدأ من منتصف القرن الرابع الهجري بالتقريب. حين طرأت على المسلمين عدة عوامل سياسية وعقلية وخلقية واجتماعية أثرت في كل مظهر من مظاهر نهوضهم وأحالت نشاطهم التشريعي إلى فتور ووقفت حركة الاجتهاد والتقنين وأماتت في العلماء روح الاستقلال الفكري فلم يردوا المعين الذي لا ينضب ماؤه وهو القرآن والسنة بل راضوا أنفسهم على التقليد ورضوا أن يكونوا عالة على فقه الأئمة السابقين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأقرانهم. وحصروا عقولهم في دوائر محدودة من فروع مذاهب هؤلاء الأئمة وأصولها وحرموا على أنفسهم أن يخرجوا عن حدودها وبذلوا جهودهم في ألفاظ أئمتهم وعباراتهم لا في نصوص الشارع ومبادئه العامة. وبلغ من كونهم إلى أقوال أئمتهم أن قال أبو الحسن الكرخي من علماء الحنفية: ككل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ "، ثم يقول الشيخ خلاف عن أسباب وقوف حركة الاجتهاد: أهم العوامل التي أدت إلى هذا الوقوف والتزام تقليد السابقين أربعة:
أولا - انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك يتناحر ملوكها وولاتها وأفرادها. فهذا الانقسام شغل ولاة الأمور بالحروب والفتن واتقاء المكايد وتدابير وسائل القهر والغلبة وشغل الناس معهم فدب الانحلال العام وكان لهذا الانحلال أثره في وقوف حركة التشريع.
ثانيا - أنه لما انقسم الأئمة المجتهدون في العهد الثالث إلى أحزاب وصار لكل حزب مدرسة تشريعية بها نزعتها وخطتها. عني تلاميذ كل مدرسة أو أعضاء كل حزب بالانتصار لمذهبهم وتأييد أصوله وفروعه بكل الوسائل والإشادة بزعمائهم ورؤسائهم. فانشغل علماء المذاهب بهذه الأمور وانصرفوا عن الأساس التشريعي الأول وهو القرآن والسنة. وبهذا فنيت شخصية العالم في حزبيته.
وصار الخاصة كالعامة أتباعا مقلدين.