لم يكن في وسعها أن تقتبس اتجاهاته كاملة، فقنعت الأمم المتحدة بأن أخذت من الحج جزأه المادي وهو الاجتماع السنوي، ونسيت أن التشريع الإسلامي هيأ الحج تهيئة روحية، وأحاطه بظروف تحقق له أقصى درجات النجاح، تعال بنا نستعرض بإيجاز تلك الظروف الروحية التي توحي بالحب والصفاء والتي لو استغلت الاستغلال الطبيعي لأتت أطيب الثمرات.
فالمكان الذي اختير للحج هو منزل الوحي، هو هذه الأرض التي درج عليها محمد، وتلقى بها رسالة ربه، هو مكة، حيث الصراع الطويل الذي دار بين الحق والباطل، هو الموطن الذي شهد رسول الإسلام وهو يقهر الأحداث، ويهزأ بما حسبته قريش انتصارات لها في نضالها ضد النور المنبثق، هذا المكان له إيحاءاته، وله صفاؤه، وله تاريخه، إنه يهيئ زواره إلى درجة من الطهر والنقاء يصغر معها متاع الحياة ومادياتها.
وقبل أن يدخل الحاج مكة يلزمه أن يحرم، والاحرام درجة في الروحانية ذات بال، يخرج المسلم بها من لباسه ومن زينته، ولا يمس طيبا، ولا يلبس مخيطا، ولا يقص ظفرا، ولا يحلق شعرا، ويكتفي بقماش ساذج يواري به عورته، ونعل بسيطة تحمى قدميه، فالاحرام بعبارة أخرى إلقاء زينة الحياة الدنيا جانبا، وتخلص من المتع الزائلة، وإشعار بالمساواة والأخوة بين المسلمين.
ويلتقي الحجيج جميع في التاسع من ذي الحجة بعرفات، في ذلك الجبل الفسيح بين الرمل والحصا، وفي ذلك مزيد من الصفاء، وتخلص من ماديات الحياة وأنوارها المشعة، وما بها من جاذبية مؤقتة تسحر العيون، وفتنة زائلة تشغل القلوب.