الفردية عند الرومان نكون قد عبرنا في الحقيقة عن نشاطات وحركات مادية في جهازه العصبي نشأت ميكانيكيا عن أسباب خارجية أو باطنية كحرارة الموقد الذي جلس أمامه أستاذ التاريخ أو عمليات الهضم التي أعقبت تناوله وجبة الغذاء.
وقد وجدت السلوكية في المنبهات الشرطية القائمة على تجارب بافلوف سندا كبيرا يتيح لها التأكيد على كثرة المنبهات التي يتلقاها الانسان (بسبب نموها وزيادتها عن طريق الاشراط) حتى أصبح بالامكان القول بأن مجموع المنبهات (الطبيعية والشرطية) يتكافأ مع مجموع الأفكار في حياة الانسان. وأما كيف استفادت السلوكية من تجارب بافلوف، وما هي المنبهات الشرطية التي كشفت عنها هذه التجارب فضاعفت من عدد المنبهات التي تفسر السلوكية في ضوئها أفكار الانسان والى أي مدى يمكن لتجارب بافلوف ان تبرهن على وجهة النظر السلوكية، فهذا ما سنجيب عنه في البحث المخصص للادراك من بحوث هذا الكتاب - وهو الجزء الخامس من القسم الثاني في هذا الكتاب - وانما يهمنا الآن ابراز وجهة النظر السلوكية التي تخضع الحياة الفكرية عند الانسان للتفسير الميكانيكي وتفهم الفكر والشعور بوصفه نشاطا فيزيولوجيا تثيره أسباب مادية متنوعة.
ومن الواضح ان أي محاولة لوضع نظرية للمعرفة في ضوء السلوكية هذه يؤدي حتما إلى موقف سلبي تجاه قيمة المعرفة والى عدم الاعتراف بقيمتها الموضوعية، وبالتالي يصبح كل بحث عن صحة هذه الفكرة العلمية أو هذا المذهب الفلسفي أو ذاك الرأي الاجتماعي عبثا لا مبرر له لأن كل فكرة، مهما كان طابعها أو مجالها العلمي أو الفلسفي أو الاجتماعي لا تعبر عن شيء سوى حالات خاصة تحدث في أجسام أصحاب الفكرة أنفسهم. فلا نستطيع ان نتساءل على الصعيد الفلسفي أي الفلسفتين على صواب: مادية أبيقور أو آلهية أرسطو، ولا أن نتساءل على الصعيد العلمي أيهما على صواب: نيوتن في فكرته القائلة بتفسير الكون على أساس الجاذبية، أو آنشتين في نسبيته العامة، ماركس في تفكيره الاقتصادي، أو ريكاردو مثلا. وهكذا في كل المجالات. لأن تساؤلنا هذا يبدو في ضوء السلوكية شبيها تماما بالتساؤل عن