في كل وجه، وتركوا ما انتهبوا، وخلوا من أسروا، وانتقضت صفوف المسلمين، واستدارت رحاهم، وكانت الريح أول النهار صبا فصارت دبورا، وكر الناس منهزمين يحطم بعضهم بعضا، فصاروا ثلاثا: ثلثا جريحا، وثلثا منهزما، وثلثا مقتولا، وصرخ الشيطان - لعنه الله -: أي عباد الله، إخوانكم. فرجعت أولاهم، فاجتدلت هي وأخراهم، وهم يظنون أنهم من العدو. وكان غرض إبليس بذلك أن يقتل المسلمون بعضهم بعضا، وكان أول النهار للمسلمين على الكفار، كما قال تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم، ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) [آل عمران 152].
فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين. وصرخ الشيطان عند جبل عينين وقد تصور في صورة جعال بن سراقة رضي الله عنه: " إن محمدا قد قتل " ثلاث صرخات، ولم يشك فيه أنه حق وكان جعال إلى جنب أبي بردة يقاتل أشد القتال، فقال جماعة من المسلمين لما سمعوا ذلك:
إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل أفلا تقاتلون على دينكم، وعلى ما كان عليه نبيكم، حتى تلقوا الله تعالى شهداء؟! وقال جماعة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي لنا أمانا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم، قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، واختلط المسلمون، فصاروا يقتلون على غير شعار، ويضرب بعضهم، بعضا، من العجلة والدهش وما يدري.
وتفرق المسلمون في كل وجه، وانهزمت طائفة منهم حتى دخلت المدينة، فلقيتهم أم أيمن فجعلت تحثو في وجوههم التراب وتقول لبعضهم: " هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك ".
ولما انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا نفر يسير لم يبق للمسلمين لواء قائم ولا فئة، وإن كانت خيل المشركين لتجوسهم مقبلة مدبرة في الوادي، يلتقون ولا يفترقون، ما يرون أحدا من الناس يردهم، حتى رجعوا إلى معسكرهم، وأصعد بعض المسلمين في الجبل، واستشهد منهم من أكرمه الله تعالى بالشهادة، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صرخ به الشيطان قال: هذا إزب العقبة.
ذكر ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم روى البيهقي عن المقداد بن عمرو رضي الله عنه فذكر حديثا في يوم أحد وقال:
فأوجعوا والله قتلا ذريعا، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نالوا، ألا والذي بعثه بالحق إن زال رسول الله صلى الله عليه وسلم شبرا واحدا، وإنه لفي وجه العدو ويفئ إليه طائفة من أصحابه مرة، وتفترق