وروى البيهقي عن مجاهد في قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحا) قال: يعني ريح الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق، حتى كفأت قدورهم على أفواهها، ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم. (وجنودا لم تروها) قال: الملائكة. قال: ولم تقاتل يومئذ.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: بعث الله تعالى عليهم الريح والرعب كلما بنوا قطع الله أطنابه، وكلما ربطوا دابة قطع الله رباطها، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، حتى لقد ذكر لنا: أن سيد كل حي يقول: يا بني فلان، هلم إلي حتى إذا اجتمعوا عنده قال: " النجاة النجاة، أتيتم "! لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب.
قال البلاذري: ثم إن الله تعالى نصر المسلمين عليهم بالريح، وكانت ريحا صفراء فملأت عيونهم، فداخلهم الفشل والوهن وانهزم المشركون، وانصرفوا إلى معسكرهم، ودامت عليهم الريح، وغشيتهم الملائكة تطمس أبصارهم، فانصرفوا (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) [الأحزاب 25].
قال أبو الخطاب بن دحية: هذه الملائكة بعثها الله تعالى فنفثت في روعهم الرعب والفشل، وفي قلوب المؤمنين القوة والأمل، وقيل: إنما بعث الله الملائكة تزجر خيل العدو وإبلهم، فقطعوا مدة ثلاثة أيام في يوم واحد. فارين منهزمين.
ذكر إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ليكشف له خبرهم روى الحاكم وصححه ابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طرق عن حذيفة ومسلم، وابن عساكر عن إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه، وابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي، وأبو نعيم مختصرا عن ابن عمر: أن حذيفة رضي الله عنه ذكر مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال جلساؤه: أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا - وفي لفظ: فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلت معه وأبليت - فقال حذيفة: لا تتمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحا منها، وفي أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: (إن بيوتنا عورة وما هي بعورة) [الأحزاب 13] فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون، ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك، فاستقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا رجلا، يقول: ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة - وفي لفظ: جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة - فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله. فقال